الثلاثاء، 18 ديسمبر 2018

حوار بين أبي جعفر المنصور وأعرابي صور مشرقة من تاريخنا


صَبِيحَةٌ مُبارَكَةٌ
إِخْوَتِي أَخَوَاتِي
حوار بين أبي جعفر المنصور وأعرابي
صور مشرقة من تاريخنا
وجل تاريخنا مشرق
لا ندرسه للتغني ، بل لإتمام ما بدأه السلف
قدم المنصور مكة، فكان يخرج من دار الندوة إِلَى الطواف فِي آخر الليل ويطوف ويصلي، ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إِلَى دار الندوة، وجاء المؤذنون فسلموا عليه، أقيمت الصلاة، فيصلي بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر، فبينا هو يطوف إذ
سمع رجلا عند الملتزم وَهُوَ يَقُول: اللَّهمّ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد فِي الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع. فأسرع المنصور فِي مشيه حَتَّى ملأ مسامعه من قوله، ثُمَّ خرج فجلس ناحية من المسجد، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ فدعاه، فصلى ركعتين، واستلم الركن، وأقبل مَعَ الرسول، فسلم عليه، فَقَالَ لَهُ المنصور: مَا هَذَا الّذي سمعتك تقوله .فو الله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني فأقلقني، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصلها، وإلا احتجبت منك وأقتصر على نفسي، ففيها لي شغل شاغل. فَقَالَ: أنت آمن على نفسك. فقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن الَّذِي دخله الطمع حَتَّى حال بينه وبين الحق وإصلاح مَا ظهر من البغي والفساد فِي الأرض لأنت. قَالَ: ويحك، كيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء بيدي، والحلو والحامض فِي قبضتي. قَالَ: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن اللَّه عز وجل استرعاك أمور المسلمين بأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الآجر والجص، وأبوابا من الحديد، وحجبة معهم السلاح، واتخذت وزراء وأعوانا فجرة، إن نسيت لم يذكروك، وإن أحسنت لم يعينوك، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح/، وأمرت 23/ أأن لا يدخل عَلَيْك من الناس إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله فِي المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا عنك، تجبي المال ولا تقسمه، قالوا: هَذَا قَدْ خان اللَّه، فما لنا لا نخونه، وقد سخر لنا، وائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا مَا أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه [1] عنك حَتَّى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم النّاس وهابوهم، وَكَانَ أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بها على ظلم رعيتك، [ثُمَّ فعل ذلك الثروة والقوة من رعيتك] [2] لينالوا ظلم من دونهم من الرعية، وامتلأت بلاد اللَّه بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إِلَى مدينتك، وإن أراد رفع قصة إليك عند ظهورك، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8/ 50)
وجدك قَدْ نهيت عَنْ ذلك، ووقفت للناس رجلا ينظر فِي مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل يبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فإن صرخ بين يديك ضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر ولا تغير، فما بقاء الإسلام وأهله على هَذَا، وقد كانت بْنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم إلا رفعت مظلمته، ولقد كَانَ الرجل يأتي من أقصى الأرض حَتَّى يبلغ سلطانهم فينادي: يا أَهْل الإسلام. فيبتدرونه: مالك مالك. فيرفعون مظلمته إِلَى سلطانهم فينتصف لَهُ. فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاث: إن قلت أجمعها لولدي فقد أراك اللَّه عبرا فِي الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وماله على الأرض مال، وما من مال إلا ومن دونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال اللَّه يلطف بذلك الطفل الصغير حَتَّى تعظم رغبة الناس إِلَيْهِ، ولست بالذي تعطي، بل اللَّه يعطي من يشاء مَا يشاء. وإن قلت أجمع المال ليشتد سلطاني فقد أراك اللَّه عز وجل عبرا فيمن كَانَ قبلك مَا أغنى عنهم مَا جمعوا من الذهب والفضة، وما أعدوا من السلاح والكراع مَا ضرك، وولد أبيك مَا كنت فيه من الضعف حين أراد اللَّه عز وجل بكم مَا أراد، وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله مَا فوق مَا أنت فِيهِ إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قَالَ: لا. قَالَ: فكيف تصنع بالملك الَّذِي خولك مَا أنت فِيهِ من ملك الدنيا، وَهُوَ لا يعاقب من عصاه بالقتل، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود فِي العذاب الأليم، وَهُوَ الَّذِي يرى منك مَا عقد عليه قلبك  ، وأضمرته جوارحك، فما تقول إذا انتزع ملك الدنيا من يدك، ودعاك إِلَى الحساب؟ هل يفي عنك مَا كنت فيه شيئا؟
فبكى المنصور بكاء شديدا حَتَّى ارتفع صوته، ثُمَّ قَالَ: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئا. ثُمَّ قَالَ: كيف احتيالي فيما خولت ولم أر من الناس إلا خائنا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْك بالأئمة الأعلام المرشدين. قَالَ: ومن هم؟ قَالَ: العلماء. قَالَ: قَدْ فرّوا مني. قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ظهر مَا من طريقتك، ولكن افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم، وامنع الظالم، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالعدل، وأنا ضامن لك عَنْ من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك. فَقَالَ المنصور: اللَّهمّ وفقني أن أعمل بما قَالَ هَذَا الرجل.
ــــــــــــــــــــــ
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم – ابن الجوزي (8/ 48)
المختصر في أخبار البشر (2/ 7)
تاريخ ابن الوردي (1/ 190)
سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي - العصامي(3/ 378)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق