الأحد، 31 يناير 2016

أَخذه الْأسد فِي الْمَكَان الَّذِي أَخذ فِيهِ أَبَاهُ

أَخذه الْأسد فِي الْمَكَان الَّذِي أَخذ فِيهِ أَبَاهُ
نقل أصحاب الأدب عن أبي عَليّ الْعلوِي بِالْكُوفَةِ، أن غُلَام لَهُ دخل عليه، فَقَالَ: يَا مولَايَ، أَخذ الْأسد فلَانا وكيلك.
فانزعج، وَقَالَ: أَيْن أَخذه؟ فَقَالَ: فِي مَوضِع كَذَا وَكَذَا، وَأدْخلهُ الأجمة الْفُلَانِيَّة.
فَقَالَ أَبُو عَليّ: لَا إِلَه إِلَّا الله، فِي هَذَا الْيَوْم بِعَيْنِه، أَخذ الْأسد أَبَاهُ، وَأدْخلهُ هَذِه الأجمة بِعَينهَا، مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سنة، واغتم، فسليناه، فَعَاد إِلَى شَأْنه فِي المحادثة.
ولم يلبث ، إِذْ دخل عَلَيْهِ غلمانه مبادرين، فَقَالُوا: قد وافى فلَان، يعنون ذَلِك الْوَكِيل، فَأذن لَهُ، فَدخل.
فَرَحَّبَ بِهِ أَبُو عَليّ، وَسَأَلَهُ عَن خَبره، فَقَالَ: نعم، أَخَذَنِي الْأسد، كَمَا شاهدوني، وَكنت رَاكِبًا، فَحَمَلَنِي بِفِيهِ، كَمَا تحمل السنور بعض أَوْلَادهَا، إِلَّا أَنه مَا كلمني، وأدخلني الأجمة، وَقد زَالَ عَقْلِي.
وَلم أعلم من أَمْرِي شَيْئا، إِلَّا أنني أَفَقْت فَلم أره، وَوجدت أعضائي سَالِمَة، وَوجدت حَولي من الجماجم وَالْعِظَام أمرا عَظِيما، فَلم يزل عَقْلِي وقوتي يثوبان إِلَيّ إِلَى أَن قُمْت، ومشيت.
فَعَثَرَتْ بِشَيْء تأملته، فَإِذا هُوَ هميان، فَأَخَذته، وشددت بِهِ وسطي، ومشيت إِلَى أَن بَعدت عَن الْموضع، فوصلت إِلَى شَبيه بوهدة، فَجَلَست فِيهَا، وغطيت نَفسِي بِمَا أمكنني من الْقصب بَقِيَّة لَيْلَتي.
فَلَمَّا طلعت الشَّمْس أحسست بِكَلَام المجتازين، وحوافر بغالهم، فَخرجت وعرفتهم قصتي، وَركبت بغل أحدهم.
فَلَمَّا بَعدت عَن الأجمة، وَأمنت على نَفسِي، فتحت الْهِمْيَان، فَإِذا فِيهِ رقْعَة بِخَط أبي، بِأَصْل مَا كَانَ فِي الْهِمْيَان من الدَّنَانِير، وَبِمَا أنفقهُ، فَإِذا هُوَ هميان أبي الَّذِي كَانَ فِي وَسطه لما افترسه السَّبع.
فحسبت المصروف، ووزنت الْبَاقِي، فَإِذا هِيَ بِإِزَاءِ مَا بَقِي من الأَصْل، مَا نقصت شَيْئا.
قَالَ: وَأخرج الْهِمْيَان، وفتحه، وَأخرج الرقعة، فَقَالَ أَبُو عَليّ: نعم، هَذَا خطّ أَبِيك.
فسبحان الله رب العالمين
=================
-         الفرج بعد الشدة للتنوخي (4/ 188)
---------
الهميان حزام من جلد توضع به النقود


اختلاف الهمم والشهوات والأماني

اختلاف الهمم والشهوات والأماني
ولناس في ذلك مذاهب
وأترك لكم متعة القراءة والتأسي بمن شئتم  
-         روى أنه اجتمع عند الحجر الأسود جماعة منهم ابن عمر ومصعب بن الزبير وعبد الله
بن الزبير فقالوا ليقم كل واحد منكم وليسأل من الله حاجته
فقال لهم مصعب: تمنّوا
فقالوا: إبدأ أنت.
فقال: ولاية العراق وتزوّج سكينة ابنة الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فنال ذلك وأصدق كلّ واحدة خمسمائة ألف درهم وجهّزها بمثلها.
فقال : عبد الله بن الزبير أما أنا فأتمنى الخلافة فنالها
وتمنى عروة بن الزّبير الفقه وأن يحمل عنه الحديث فنال ذلك.
وتمنّى عبد الملك بن مروان الخلافة فنالها.
وتمنى عبد الله بن عمر المغفرة وقيل الجنة. وأسأل الله أن ينالها
-         وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال لأصحابه تمنوا فقال رجل أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله   ثم قال تمنوا
فقال رجل أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهراأنفقه في سبيل الله وأتصدق ثم قال تمنوا
فقالوا ما ندري يا أمير المؤمنين
فقال عمر أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح
-         وروى الحميدي واخبرني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد قال كان  المنصور ابن أبي عامر
 يوما جالسا مع ثلاثة من أصحابه من طلبة العلم فقال لهم ليختر كل واحد منكم خطة أوليه إياها إذا أفضى إلي الأمر فقال أحدهم توليني قضاء كورة رية وهي مالقة وأعمالها فإنه يعجبني هذا التين الذي يجيء منها وقال الآخر توليني حسبة السوق فإني أحب هذا الإسفنج   وقال الثالث إذا أفضي إليك الأمر فأمر أن يطاف بي قرطبة كلها على حمار ووجهي إلى الذنب وأنا مطلي بالعسل ليجتمع علي الذباب والنحل ، وافترقوا على هذا فلما أفضى الأمر إليه كما تمنى بلغ كل واحد منهم امنيته على نحو ما طلب – وجهاد الفرنجة في الأندلس ثمانية عشر عاما متصلة لم يعد فيها لبيته
-         وروي أن الْوَلِيد بن عبد الملك قال لبديح: خُذ بِنَا فِي التَّمَنِّي فوَاللَّه لأغلبنك.
قَالَ بديح : وَالله لَا تغلبني أبدا
قَالَ: بلَى وَالله مَا تتمنى شَيْئا إِلَّا تمنيت ضعفيه.
قَالَ بديح: فَإِنِّي أَتَمَنَّى كِفْلَيْنِ من الْعَذَاب، وَأَن الله يلعنني لعناً كَبِيرا، فَخذ ضعْفي ذَلِك.
قَالَ: غلبتني لعنك الله.
===============
-         حلية الأولياء – الأصبهاني ج: 1 ص: 102
-         عيون الأخبار - ا بن قتيبة الدينوري (1/ 367)
-         البداية والنهاية- الإمام ابن كثير: 8 ص: 319
-         نثر الدر في المحاضرات – أبو سعد الآبى (2/ 150)
===========
هشام محمد كرامي


أحبابنا هم خصماؤنا يوم القيامة

أحبابنا هم خصماؤنا يوم القيامة
ونحن إما غرماء ، أو خصماء لهم
فلماذا الصراخ ؟  ولماذا العويل ؟
وحتى النبي عليه الصلاة والسلام إما أن يكون شفيعا أو خصيما يوم لا ينفع مال ولا بنون
إن قلت أن فقد الأحبة لا يحزن فقد أخطأت ، فان العين لتدمع والقلب ليحزن
بل هناك من فقدناه وغدا ذاكرتنا ، وليس للنسيان إليه سبيل
ولكني أتساءل
ألن يمسك أولادنا بتلابيبنا لِمَ لَمْ نأمرهم بطاعة أو نقف بوجهم لاقتراف معصية
ألن تحاسبنا زوجاتنا عن رزق حرام جلبناه لبيوتنا
ألن تقول أمهات لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله دعهم في النار فقد كانوا يسووننا بزوجاتهم
أليس من الواجب على من يُشَيعُ من يحب أماً ، أباً ، ولداً ، زوجة ، جاراً ، أن يظهر كرمه فيسامحه في هذا الموقف مسبقاً ، وأن يقوم بما قد يستمطر به رحمة للفقيد كي يسامحه إن قصر تجاهه في الدنيا
لا تتخيل أخي أختي أن الموت نهاية
لا أبالغ إن قلت إن أمواتنا جياعٌ مثلا وبصورة أخرى من صور الجوع لا بل يصلون إلى حد المسغبة ( الجوع الشديد )
فعن سفيان الثوري. قال : قال طاوس : إن الموتى يفتنون في قبورهم سغبا، وكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام.
فهل نؤدي حق أحبابنا ؟
أم كانت دموعنا كاذبة ؟

أو أنّا كما قيل : مات من جوعه ، وفي عزائه ذبحوا كل الخراف

الخميس، 21 يناير 2016

صحة حديث صلاة التسابيح الحويني

الرؤيا والحلم وشيء من تفسير محمد ابن سيرين لبعض الرؤى

الرؤيا والحلم
وشيء من تفسير محمد ابن سيرين لبعض الرؤى
فالرؤيا من الله والحلم من الشيطان. إلا أن العلماء اصطلحوا على تسمية الأمر المحبوب في المنام رؤيا ، والأمر المكروه حلما. وكل من الرؤيا والحلم من خلق الله تعالى وتدبيره وإرادته. ولكن الرؤيا أضيفت إلى الله إضافة تشريف، بخلاف الرؤيا المكروهة التي هي الحلم.
ولنا أن نعلم أن ادعاء الرؤيا أمر منهي عنه فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ …..
وفي سنن ابن ماجة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَحَلَّمَ حُلُمًا كَاذِبًا، كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَيُعَذَّبُ عَلَى ذَلِكَ»
وعن أَبَا قَتَادَةَ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَالحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمُ الحُلُمَ يَكْرَهُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، فَلَنْ يَضُرَّهُ»
وتفسير الحلم لا يكون هكذا فهو أمر مرهون بالكتاب والسنة والخبرة الذاتية ، فرؤيا واحدة لشخصين قد تفسر بشكل عكسي وكان ابن سيرين إذا سئل عن الرؤيا قال للسائل: اتّق الله في اليقظة ولا يغرك ما رأيت في المنام.
-         قال له رجل: رأيت كأنى أصب الزيت في الزيتون، فقال: فتش على امرأتك فإنها أمك، ففتش فإذا هي أمه.
وذلك أن الرجل أخذ من بلاده صغيرا سبيا ثم مكث في بلاد الإسلام إلى أن كبر، ثم سبيت أمه فاشتراها جاهلا أنها أمه، فلما رأى هذه الرؤيا وذكرها لابن سيرين فأمره أن يفتش على ذلك، ففتش فوجد الأمر على ما ذكره.
-         وقال له رجل: رأيت الحمام تلقط الياسمين. فقال: مات علماء البصرة.
-         وأتاه رجل فقال: رأيت رجلا عريانا واقفا على مزبلة وبيده طنبور يضرب به، فقال له ابن سيرين: لا تصلح
هذه الرؤيا في زماننا هذا إلا للحسن البصري، فقال: الحسن هو والله الّذي رأيت. فقال: نعم، لأن المزبلة الدنيا وقد جعلها تحت رجليه، وعريه تجرده عنها، والطنبور يضرب به هي المواعظ التي يقرع بها آذان الناس.
-         وجاءته امرأة فقالت: رأيت كأن سنورا أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال لها ابن سيرين:
سرق لزوجك ثلاثمائة درهم، وستة عشر درهما، فقالت: صدقت من أين أخذته؟ فقال: من هجاء حروفه وهي حساب الجمل، فالسين ستون، والنون خمسون، والواو ستة والراء مائتان، وذلك ثلاثمائة وستة عشر، وذكرت السنور أسود فقال: هو عبد في جواركم، فالزموا عبدا أسود كان في جوارهم وضرب فأقر بالمال المذكور.
----------------------
-         صحيح البخاري (9/ 42)
-         صحيح البخاري (9/ 35)
-         سنن ابن ماجه (2/ 1289)
-         البداية والنهاية – ابن كثير (9/ 275)


أدعوكم لعل الله ينظر إلينا ويفرج عنا

أدعوكم لعل الله ينظر إلينا ويفرج عنا
لتبدأ يومنا بالدعاء ، ولنقل اليوم يا رب يا رب يا رب ثلاث مرات
فقد نقل عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ رحمه قوله : ما قال العبد: يا رب، ثلاث مرات إلا نظر الله إليه، ، فذكر ذلك للحسن البصري فقال: أما تقرؤون القرآن : رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿١٩٣﴾ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿١٩٤﴾ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴿١٩٥﴾سورة آل عمران
البداية والنهاية – الحافظ ابن كثير (9/ 336)

زينة العمل الحلم

صبيحة مباركة
وكلاكم الله بحفظه ورعايته أخوتي أخواتي
ثم أقول من اتجه في باكورة يومه لعمله ، له أن ينوي العمل بطاعة الله
ولندرك أن العمل بطاعة الله في مضمونه النصح لله
فالنصح ريح العمل والعمل طعم ظاهر له
ولا بد لنا أيضاً من تزيين العمل وزينة العمل الحلم
من كلمات وهب بن منبه اليماني رحمه الله بتصرف
------------
البداية والنهاية – ابن كثير (9/ 276)

الزاهر في معاني كلمات الناس – الأنباري (1/ 155)

لا إله إلا الله مفتاح الجنة

لا إله إلا الله مفتاح الجنة
ولكل مفتاح أسنان
فمن أتى الباب بمفتاح بأسنانه فتح له
ومن لم يأت الباب بمفتاح بأسنانه لم يفتح له.
وهب بن منبه اليماني رحمه الله

-         البداية والنهاية – ابن كثير (9/ 299)

الأحد، 17 يناير 2016

التحولات الفكرية والاجتماعية التي رافقت وساهمت في سقوط الخلافة العثمانية


التحولات الفكرية والاجتماعية التي رافقت وساهمت في سقوط الخلافة العثمانية
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على محمد طه الأمين وعلى آله وأصحابه ومن والاه حتى يوم الدين أما بعد
لعل الاهتمام بمسألة علاقة العرب الأتراك عموما ومع العثمانيين خصوصا وما نتج عن هذه العلاقة من تداعيات لازالت تفرض ظلالها على الواقع الفكري والاجتماعي والسياسي لتخيم آثارها على الأمة العربية وحتى مع انتهاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لا بل إننا لازلنا نعيش في صور وأشكال شتى تحت أو في ظل هذه الأحداث ونتائجها 0
والموضوع الذي نحن بصدده دراسته هو حديث من جهة وقديم من جهة أخرى ، فمن يدفعه قدما يذهب فيه إلى معركة مؤته ليجد له جذوراً ، ومن يُحًدِثهُ يجعل المسألة تبدأ مع المد العثماني على قارة أوروبة0 إلا أن القضية المحزنة في رأيي هي أن الكثيرين لازالوا يعشون في ظل مورث لمقولات جانبت الصدق في كثير من حالاتها وربما تحول بعضها إلى أحكام نافذة غير قابلة للطعن بطريق النقض أبداً0
ولعلي أستطيع من خلال كلمات أن أوفق في تسليط الضوء على جزء يسير من علاقة استمرت قرونا وأريد لها أن تنتهي مع العقد الأول للقرن الماضي 0
في البداية ربما تصلح القصة لرسم صورة عن بعض عناوين السلطة في الدولة العثمانية ليتضح المبدأ والأسلوب الذي أسست عليه هذه السلطنة فهناك تراث من القصص التي تُظهر أولئك القادة الذين أسسوا أو قادوا تلك الدولة التي سيطرت من حيث النفوذ على أكثر من ثلثي المعروف من الأرض لعقود أو قرون مضت 0
تبدأ القصة من سيرة أرطغرل لتمر عبر حياة مراد الثاني ولتقف عند حياة محمد الفاتح لتعود مرة أخرى للظهور مع حياة السلطان سليم الأول والذي بدأت معه الفترة التي نحن بصدد دراسة تداعياتها0
يصل لمسامع السلطان سليم الأول أن الأقليات غير المسلمة الموجودة في (اسطنبول) من الأرمن والروم واليهود ،بدأت تتسبب في بعض المشاكل للدولة العثمانية ،وتثير بعض القلاقل ، فغضب لذلك غضباً شديداً ، وأعطى قراراه بأنه على هذه الأقليات غير المسلمة اعتناق الدين الإسلامي ، ومن يرفض ذلك ضرب عنقه.
ويبلغ هذا الخبر شيخ الإسلام ( زمبيلي علي مالي أفندي) ، وكان من كبار علماء عصره ، فساءه ذلك جداً ، حيث لا إكراه في الدين وليس في مقدور أحد إجبار أحد على اعتناق الإسلام فذلك يخالف تعاليم الإسلام نفسه. وبناءً عليه فلا يجوز مخالفة هذه القاعدة الشرعية ، وإن كان ذلك من قبل السلطان نفسه.
ولكن من له القدرة للوقوف أمام السلطان ، الرجل الذي يرتجف أمامه الجميع ؟ ثم من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان ، بطبعه الحاد ، فيُبَلِّغه ليوقف أمراً سلطانياً ، لا يوافق الشريعة الإسلامية ؟
نعم ليس سواه من يستطيع ذلك ، فهو الذي يشغل منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية ، وعليه تقع مهمة إزالة هذا المنكر الذي يوشك أن يقع.
لبس جبته وتوجه إلى قصر السلطان ، واستأذن في الدخول عليه ، فأذن له ، فقال للسلطان : سمعت أيها السلطان أنك تريد أن تكره جميع الأقليات غير المسلمة على اعتناق الدين الإسلامي.
السلطان وهو لا يزال محتداً: أجل .. إن ما سمعته صحيح .. وماذا في ذلك ؟
ويقول الشيخ  : أيها السلطان إن هذا مخالف للشرع ، إذ لا إكراه في الدين ، ثم إن جدكم (محمد الفاتح) عندما فتح مدينة (اسطنبول) اتبع الشرع الإسلامي فلم يكره أحداً على اعتناق الإسلام ، بل أعطي للجميع حرية العقيدة ، فعليك بإتباع الشرع الحنيف 0
السلطان سليم وحدته تتصاعد : يا علي أفندي … يا علي أفندي : لقد بدأت تتدخل في أمور الدولةأفلا تخبرني إلى متى سينتهي تدخلك هذا ؟
الشيخ : أيها السلطان لم أقم إلا بما تمليه عليه وظيفتي في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإن لم ينته أجلي ، فلن يستطيع أحد أن يسلبني روحي.
دع هذه الأمور لي يا شيخ الإسلام.
لا أيها السلطان … إن من واجبي أن أرعى شؤون آخرتك أيضاً ، وأن أجنبك كل ما يفسد حياتك الأخروية ، وإن اضطررت إلى سلوك طريق آخر.
ماذا تعني ؟
سأضطر إلى إصدار فتوى بخلعك أيها السلطان ، بسبب مخالفتك للشرع الحنيف إن أقدمت على هذا الأمر.
ويذعن السلطان (سليم) لرغبة شيخ الإسلام ، إقراراً للشرع واحتراما  للعلماء ، لتبقى الأقليات غير المسلمة حرة في عقائدها ، وفي عباداتها ، وفي محاكمها ، ولم يمد أحد أصبع سوء إليهم.
وأنا لن أنسب القداسة أو النزاهة المطلقة للسلاطين العثمانيين ولكنها هي دعوة لدراسة حرة خالية من مقدمات سابقة وأحكام جاهزة أطلقت ولازالت تطلق حتى اليوم 0
كذلك لابد من القول إن كنا نقصد في حديثنا الحكم التركي فيجدر أن نعلم أن الأتراك حكموا الأرض العربية مابين القرن السابع وحتى منتصف القرن الحادي عشر الميلادي ومنه وحتى سقوط القسطنطينية 1453 ، وإن قصدنا الحكم العثماني فلقد بدأ منذ انتصار السلطان سليم في معركة مرج دابق شمالي حلب سنة 922 هـ  1516 م وحتى سنة1336 هـ  1918 م بدخول الأمير فيصل دمشق 0
كذلك يجب التذكير بمسألة أخرى وهي أن أحداً لم ينكر على السلطان ملك شاه ولا على الشهيد عماد الدين الزكي ولا على قاهر التتر المظفر قظر ولا على محرر القدس صلاح الدين وغيرهم من قادة هذه الأمة كونهم أتراكاً ، ولم تظهر مسألة الخلاص من حكم الأتراك حتى عند المؤرخين الأوروبيين ، ولم يسم أحد حالات الضعف التي مرت على الدولة العربية وحتى عندما سلمت القدس بعد تحريرها ومن قبل أحد أحفاد صلاح لأعدائها لتدعى تلك الدولة التركية قيادة والعربية جوهرا تدعى بالرجل المريض 0
لكننا وجدنا المسألة تظهر مع زحف العثمانيين للسيطرة على أجزاء واسعة من أوروبا بعد سقوط القسطنطينية فظهر عند مفكري الغرب هاجساً عرف بالمسألة الشرقية وقصد منها العمل للخلاص من سيطرة العثمانيين على أوروبا ولقد كان الأوربيون بارعين بنقلها إلينا لتصبح مبدأ وهدفاً سعى  لتحقيقه بعض مفكري العرب من الذين خضعوا للتأثير الغربي ، ولكنهم وبعد زوال الطلاوة عن العيون عادوا ينعون ما سعوا إليه ولكن بعد فوات الأوان يقول شوقي
عادَت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحِ    وَنُعيتِ  بَينَ  مَعالِـمِ  الأَفراحِ
كُفِّنتِ فــي لَيلِ  الزَفافِ بِثَوبِهِ    وَدُفِنتِ  عِندَ  تَبَلُّجِ   الإِصباحِ
شـُيِّعتِ مِن هَلَعٍ بِعَبرَةِ  ضاحِكٍ    في كُلِّ ناحِيَةٍ  وَسَـكرَةِ صاحِ
ضَجَّت   عَلَيكِ  مَآذِنٌ    وَمَنابِرٌ    وَبَكَت عَلَيكَ مَمالِكٌ   وَنَـواحِ
الهِند   والِهَةٌ   وَمِصرُ  حَزينَةٌ     تَبكي  عَلَيكِ  بِمَدمَعٍ   سَحّاحِ
وَالشامُ تَسأَلُ  وَالعِراقُ وَفارِسٌ     أَمَحا مِنَ الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ
وأنا هنا لن أتعرض لذكر الأسباب التي أوصلت العرب إلى هذه النتيجة والتي لم تقتصر على زوال الحكم العثماني فحسب بل ينسحب ذلك ليمثل واقع فكرياً واجتماعيا وسياسيا نعيشه على مستوى الساحة العربية ونرغب نسعى لزواله 0 ولكنني سأستعرض لحالة الاضطراب التي سادت وطالت الحياة الفكرية والاجتماعية على صعيد الوطن العربي بكليته نتيجة لها 0
وأنا هنا سأسعى لتسليط الضوء على حيز من التطور الفكري والاجتماعي الذي ساهم في إحداث جملة هذه التحولات والتي كان من نتاجها هذا الواقع الذي نلمسه في حياتنا ونعيشه اليوم 0
في الحقيقة لقد تصرف الغرب بذكاء وبعد نظر وذلك في تصديره لما يريد الوصول إليه وتحقيقه ، فلقد أسس لزوال دولة الخلافة بطريق ذو اتجاه واحد تستحيل العودة معه بالاتجاه المعاكس في نظر مفكريه ومن خلال رغبته تلك لم يضع في منظوره محرما لهدمه وسحقه وبكل ما أوتي من قوة 0
وهو الذي أدرك أن العثمانيين يتابعون تحركات الامتداد الغربي من اليابان حتى حوض المتوسط وهو العالم المعروف آن ذاك ويمدون يد العون والمساعدة للعرب وللمسلمين دون كلل وفي مكان في كان من العالم إلا أن أهم المعارك كانت تجري على الساحة الأوروبية حيث يسعى العثمانيون لتوسيع دائرتهم في قارة أوروبا وقتذاك0
فلقد دعموا الأخوين خير الدين برباروس وأخيه عروج لحماية الشواطئ الشمالية للوطن العربي ومدوا يد العون للمسلمين في الفلبين ووصلت بعثاتهم حتى اليابان وكان للمماليك حظ وافر في ذلك ففي زمن السلطان قانصوه الغوري منح السلطان سليم الأول ثلاثين مدفعا لتقوية الدفاعات المصرية ، وعندما تصادر من قبل فرسان القديس يوحنا وهم من قراصنة البحر المتوسط يعوضها السلطان سليم بأربعين مدفعا وطنين من البارود ويرسل خبراء وقوادا عسكريين لبناء دار لصناعة السفن الحربية في مصر ومعهم المواد الأولية اللازمة لذلك0
وعندما يحاول البرتغاليون غزو الأماكن المقدسة في الحجاز فيسرع الأسطول العثماني ليقاتل مع المماليك ويهزهم البرتغاليين في البحر الأحمر وحتى حين تتأزم العلاقة بين المماليك والعثمانيين وتتحول إلى حالة حرب نرى السلطان سليم الأول يعرض على طومان باي الدخول الاسمي تحت السيادة العثمانية وهو في الحقيقة غطاء له ودرء للأخطار التي تهدده بدلا عن دخول الجيش العثماني القاهرة لكنه رفض تلك الحصانة 0
من هنا وجدا الأوروبيون أن العمل لإنهاء تلك الدولة هو الحل الذي يزيل الخطر عن أوروبا بأكملها ، ففي مؤتمر لوزان الذي عقد 1922 م بعد الحرب العالمية الأولى ، وقد وضعت الدول المنتصرة في الحرب شروطا لقبول استسلام الدول التي هزمت فيها ، ومن خلال استعرض تلك الشروط التي فرضت على كل الدول كاليابان وألمانيا وإيطاليا لن يجد الدارس شروطا إضافية إلا تلك التي فرضت على تركيا فقط 0 فلقد وضع رئيس الوفد الإنكليزي كرزون شروطاً خاصة للاعتراف باستقلال تركيا وحضور وفد أنقرة التركي : وهي
1-   إلغاء الخلافة
2-   قطع كل صلة لها بالعرب والإسلام
3-   طرد آل عثمان خارج الحدود ومصادرة أموالهم
وقد يزداد الباحث عن الحق عجبا عندما يعلم أن رجل تركيا الأول مصطفى كمال أتاتورك والذي أحسِن إعداده لدرجة أصبح حرصه على تنفيذ ما أراده أعداء أمته أكثر من حرصهم أنفسهم على ذلك ، ولنقرأ ما نشرته مجلة جريدة الصاندي تلغراف في عددها الصادر 15/2/1968 ونشره الأستاذ مصطفى السعدني في كتابه الفكر الصهيوني أن مصطفى كمال أتاتورك رجا السفير البريطاني وهو على فراش الموت أن بخلفه في منصبه وقد عبر عن خشيته من عدم استمرار رسالته ، وكأنه يريد القول أنه ليس في تركيا من قد يكون مؤتمنا على تنفيذ مخططات الغرب سواه 0
لقد أينعت ثمار الغرب في شخوص رجال كان أبرزهم مصطفى كمال أتاتورك فبعد دراسات ومؤتمرات وخطط شارك فيها علماء الاجتماع والساسة ورواد الفكر الغربيين 0 وكأن قد طرحت أوروبا مشروع مسابقة لتقديم عروض قابلة للتنفيذ غايتها ومنتهاها تقسيم الدولة العثمانية 0
فمسيو ديغو فارا والذي جمع أكثر من مئة مشروع لتقسيم تركيا والذي تقدم بها أوربيون من جنسيات مختلفة ، منهم السياسيون ومن مناصب مختلفة إضافة لمفكرون في مجلات شتى أشهرهم الفيلسوف لبتز الذي وضع مشروعه الرابع الأربعين عام 1672 م لمحو تركيا من الوجود وأعده باللغة اللاتينية وقدمه لملك فرنسا لويس الرابع عشر ومما جاء فيه أن انتزاع مصر من يد الدولة العثمانية يؤول أمرها إلى البوار ويبدأ الرسالة بـ ( مولاي الملك المسيحي – ويختمها كي يثير جشع الملك الفرنسي وإنه لمشروع ميسرو التحقيق خليق بأن يعيد الطريق تحت أقدام الفاتحين الغزاة لاستعادة أمجاد الإسكندر ) 0
وحتى لينين وبعد أن شكلت روسيا خط النار الأول في الحرب تجاه تركيا للدفاع عن أوروبة أيام القياصرة نجده يقول : في مقال له نشرته مجلة البروليتارية في عددها 37 تاريخ 29 /10 / 1908: كل الشجار تهريج وتحويل للأنظار 00 وينقل لينين عن وزراء الخارجية والدبلوماسيين الأروربيين قولهم : ليأخذ بعضكم بخناق بعض أيها السادة 00 تشاجروا من فضلكم حول المخدول والخادع المهين والمهان ويعدد بعض القضايا العالقة ومنها ضم البوسنة والهرسك للنمسا  00 ويتابع اشغلوا الرأي العام بهذه المسائل الهامة والخطيرة 00 فنحن نحتاج بالضبط لتغطية الأمر الرئيسي وبلوغ الاتفاق التميهيدي حول الأمر الجوهري وحول الخطوات المقبلة لأقتسام تركيا 0  
وهذا جزء من كل للاتجاه الذي كان سائداً لدى الأوربيين وهو ما حاول الغرب نقله وفرضه في أشكال وأساليب متنوعة ليحمل العرب على قبول فكرة زوال الخلافة الإسلامية 0
وبدأ البحث لزرع الطعم في الأرض العربية ، لكن الدارس لواقع الأحداث يدرك أن جزئين فقط من الأرض العربية كانا صالحين لزرع ذلك الطعم ومن ثم ابتلاعه ، وهما بلاد الشام ومصر ومن ثم الحجاز فالتأثير الفرنسي والإنكليزي قد رست قواعده في لبنان ومصر الخاضعة للإنكليز أما ما تبقى من الأرض العربية فهو إما خاضع للسيطرة الأجنبية المباشرة أو أن تأثيره غير فعال في الأحداث المقبلة مع نهاية القرن التاسع عشر 0
ومما يجدر ذكره أن الغرب أثار عداءنا للدولة العثمانية ، وفي كثير من الأحيان معتمدا في ذلك على جهلنا بأحداث تاريخية قدمت لنا مشوهة ، لرفع سوية الحماس لدينا وإلهاب جزوة العداء تجاههم0ومن ذلك قضية الخبرات التي نقلت من البلاد العربية إلى العاصمة العثمانية ليصبح ذلك سبباً زاد من حالة التخلف الحضاري في البلاد العربية ، ولنعلم أن المصدر الوحيد لهذه الرواية هو كتاب عربي لمحمد بن إياس الحنفي المصري ولكنه هو نفسه يقول ولقد عادت تلك الخبرات بعد ثلاث سنين إلى مواقعها لتمارس نشاطها من جديد 0 وكأن السلطان سليم أراد من عمله هذا إجراء دورات تقنية لأصحاب تلك الخبرة العرب 0
وهناك قضية أخرى لابد من التنويه إليها ألا وهي أن نُحَّمِل الفترة العثمانية تبعات التخلف الذي شهدته تلك الفترة في العالم العربي ، وهنا يجدر بي أن أستشهد بقول الأمين للجامعة العربية سابقاً عبد الرحمن عزام والذي صرح بقوله : ولو أن الأمر كما يتصوره الذين ينخدعون بآثار دور الانحطاط من استخدام الوظائف والغيرة بين العناصر والبطش لتغطية الضعف ، لاستحال ملك بني عثمان ستمائة سنة منها مئتان لا يسندهم إلا سيف مبتور
والآن يمكننا أن نقسم الاتجاهات التي سادت عند المفكرين العرب في تلك الفترة إلى ثلاثة اتجاهات وهي :
1-   الجامعة ( العربية العثمانية )
2-   الجامعة العربية العربية
3-   الاتجاه الوطني أو القطري
4-   النزعات المحلية
في هذه الفترة يمكننا أن نلاحظ مفهوم القومية أو الانتماء القومي العربي لم يكن واضحاً وضوحا تاما واستمر اتجاه الجامعة العربية العثمانية كشعار لكل الحركات والثورات الداعية للإصلاح كالثورة العرابية في مصر والتي كانت ثورة على أشكال الفساد الناتج عن تغلغل النفوذ الأجنبي وكذلك الفساد المحلي ولم تطرح تلك الحركات أبدا قضية خلع الخليفة أو تقطيع أوصال الخلافة الإسلامية فنجد عرابي يعرض ما يقوم به على السلطان العثماني نفسه مستمداً منه العون والمشورة ، وحتى الحكام المحليون كانوا يتهمون قادة الثورات بالانشقاق عن الخليفة مثل الخديوي توفيق في الرد على ثورة عرابي
مصطفى كامل وفي كتابه المسألة الشرقية يأمل للدولة العلية العمر اللانهائي ويقول إن المسألة الشرقية هي مسألة وجود الدولة العلية في أوروبة الرافضة لذلك الاتجاه
ويعبر شوقي عن هذا الموقف
رَضِيَ المُسلِمونَ  وَالإِسلامُ        فَرعَ عُثمانَ دُم فِداكَ الدَوامُ
دَولَةٌ شادَ رُكنَها  أَلفُ  عامٍ       وَمِئاتٌ   تُعيدُها      أَعوامُ
وَضَعَ الشَرقُ في يَدَيكَ يَدَيهِ       وَأَتَت مِن   حُماتِهِ  الأَقسامُ
بِالوَلاءِ الَّذي تُريدُ   الأَيادي       وَالوَلاءِ الَّذي يُريدُ   المُقامُ
ويقول محرم
يا آلَ عُثمانَ مِن تُركٍ   وَمِن  عَرَبٍ     وَأَيُّ شَعبٍ يُساوي التُركَ وَالعَرَبا
سوسوا الخِلافَةَ بِالشورى وَلا تَدَعوا     لِفِتنَةٍ في نَواحي المُلكِ مُضطَرِبا
وعلى الساحة الأوروبية نجد العكس تماماً تعصب علني فغلادستون زعيم حزب الأحرار في بريطانية كان يلقي الخطب الرنانة ويؤلف الرسائل المطولة واصفا السلطان عبد الحميد بالشيطان والعدو ويتهم تركيا باضطهاد شعوب البلقان ويطلق ما شاء من التسميات على السلطان عبد الحميد فهو الشيطان في نظره 0
أما على صعيد اتجاه الجامعة العربية العربية فبدأت الروح القومية بالظهور عند العرب في النصف الثاني للقرن التاسع عشر ولقد كانت في الحقيقة رداً على عنجهية الترك الحاكمين ، وحيث أن العامل الذي تتلاشى عند الأنساب قد فقد سيطرته فعندما فاخر الترك بطورانيتهم ففاخر العرب بأمجادهم 0
كانت بلاد الشام أسبق البقاع تأثراً بالفكرة القومية ، وهي الفكرة التي كانت سائدة في الفكر الأوربي وقتذاك ، وبدأ التنادي لإنشاء مملكة عربية تجمع الأقطار المستقلة وراء زعيم ديني يلتف  العرب حوله كبديل عن السلطان العثماني فكان الشريف حسين معقد الآمال ومحط الرجاء ، زاد في ذلك رغبته نفسه في حيازة تلك السلطة 0 ومع ذلك فلقد ظلت الفكرة القومية غير فعالة في حياة السلطان عبد الحميد الذي استطاع اجتذاب العرب والوقوف معهم في وجه المد الغربي ووجد السلطان عبد الحميد أنه من الواجب عليه أخذ الداعين للتفرقة بشيء من العنف فهرب الكثيرون إلى بلدان كمصر حيث الإنكليز الذين يمدون العون لكل من يتمرد على سلطة الدولة العثمانية وفريق آخر استقر في فرنسا التي كانت ترى في نفسها خليفة ووراثة للحقبة الصليبية فألف من تواجد منهم في مصر الجمعية اللامركزية فكان عبد الحميد الزهراوي في مجلة الجريدة المعارضة للجامعة العربية العثمانية والكواكبي مؤلف طبائع الاستبداد وأم القرى وكان منهم محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار ورفيق العظم وحقي العظم ومحب الدين الخطيب
ويشتد التيار القومي قوة سواء عند العرب اعتزازا بعروبتهم أو لدى الأتراك تمسكا بطورانيتهم بعد سقوط السلطان عبد الحميد وتسلط جمعية الاتحاد والترقي 1326 هـ 1908 م
ولما لم يتوافق الفهم الأوروبي للمسألة القومية العربية مع فهم الشريف حسين الذي كان يرى توسيع دائرة المفهوم القومي قام الإنكليز والفرنسي بالبحث عن بديل سريع له ليجدوه في شخص ولده فيصل ، وهو ما دعا الإنكليز للانصراف عنه والتحول لابنه فيصل لأنهم لم يبحثوا عن قائد يتمتع بالذكاء والصدق ولكنهم كانوا يبحثون عن حماس يكفيهم لإشعال الثورة في الحجاز والكلام لتوماس إدوارد لورانس وبالتالي استطاع الإنكليز زرع الخلاف بين الأمير فيصل ووالده
وهنا يقول لورنس لو أخلصت للعرب لنصحتهم بأن يعودوا إلى بيتهم وأن لا يغامروا لقاء دراهم معدودات  000 وفضلت أن نكون منتصرين وناكثي للعهد على أن نكون خاسرين مهزومين 0
وعندما تقع الكارثة وتسقط دمشق بيد الفرنسيين يهزأ أحمد محرم من الشريف وأولاده عند مر فيصل بمصر في طريقه إلى إيطاليا وقد سقطت دمشق
نَزيلَ   النيلِ أَينَ تَرَكتَ مُلكاً       أَلَمَّ   بِبابِكَ   العالي   نَزيلا
وَأَينَ التاجُ يُرفَعُ في دِمَشقٍ       فَيَصدَعُ هامَةَ الجَوزاءِ طولا
وَأَينَ الجُندُ   حَولَكَ تَزدَهيهِ       مَواكِبُ تَحمِلُ الخَطَرَ الجَليلا
وَأَينَ الفَتحُ تُنميهِ المَواضي       وَجُردُ  الخَيلِ  تَبعَثُها فُحولا
وَقُل لِأَبيكَ وَالحَسَراتُ تَهفو       بِمَعقِدِ  تاجِهِ  صَبراً  جَميلا
سَأَرحَمُ بَعدَ قَصرِكَ كُلَّ قَصرٍ      وَأَحسُدُ  بَعدَكَ الطَلَلَ المَحيلا
وبسقوط دمشق تتضح الحقيقة جلية أمام العرب وقد خدعوا من قبل الغرب فلقد تقطعت أوصال الأمة وظهر إلى الوجود واقع جديد ، وبدأ التمهيد لترسيخ ولاءات جديدة أضيق أطراً سواءً في معانيها السياسية أو الاجتماعية ، بعد أن كان الولاء أكثر اتساعا وشمولاً0
ولعل الواقع أشبه بولادة كواكب جديدة من غبار سديم سماوي ، أراء متباينة وصيحات متنافرة وأهداف غير متبلورة يتأرجح الناس من خلالها وتأخذ بهم كل مأخذ 0 والصورة القومية لم تكن واضحة حتى في أذهان المثقفين فكان التأرجح بين الدعوة للعرب أو الشرق ويمكن أن نلحظ ذلك على لسان حافظ إبراهيم
حَيّا   بَكورُ  الحَيا  أَرباعَ   لُبنانِ       وَطالَعَ  اليُمنُ  مَن بِالشَأمِ حَيّاني
أَهلَ   الشَآمِ  لَقَد  طَوَّقتُمُ   عُنُقي       بِمِنَّةٍ  خَرَجَت  عَن  طَوقِ تِبياني
لي مَوطِنٌ في رُبوعِ النيلِ أُعظِمُهُ       وَلي هُنا  في حِماكُم مَوطِنٌ ثاني
ثم يقول
مَتى    أَرى  الشَرقَ  أَدناهُ   وَأَبعَدَهُ      عَن مَطمَعِ الغَربِ فيهِ غَيرَ وَسنانِ
تَجري    المَوَدَّةُ    في  أَعراقِهِ طُلُقاً      كَجِريَةِ  الماءِ   في  أَثناءِ   أَفنانِ
لا فَرقَ    ما بَينَ    بوذِيٍّ يَعيشُ بِهِ      وَمُسلِمٍ      وَيَهودِيٍّ    وَنَصراني
فَعَلِّموا   كُلَّ    حَيٍّ    عِندَ    مَولِدِهِ      عَلَيكَ    لِلَّهِ   وَالأَوطانِ     دَينانِ
النيلُ وَهوَ  إِلى  الأُردُنَّ   في  شَغَفٍ      يُهدي   إِلى  بَرَدى أَشواقَ وَلهانِ
وَفي  العِراقِ    بِهِ     وَجدٌ   بِدِجلَتِهِ     وَبِالفُراتِ    وَتَحنانٌ      لِسَيحانِ
إِن   دامَ   ما نَحنُ   فيهِ  مِن مُدابَرَةٍ      وَفِتنَةٍ   بَينَ     أَجناسٍ    وَأَديانِ
رَأَيتُ   رَأي  المَعَرّي[1]  حينَ  أَرهَقَهُ      ما حَلَّ  بِالناسِ مِن بَغيٍ  وَعُدوانِ
لا تَطهُرُ الأَرضَ مِن رِجسٍ وَمِن دَرَنٍ      حَتّى    يُعاوِدَها    نوحٌ   بِطوفانِ
هذا الاضطراب بين مفهوم الشرق والعروبة والإسلام هو الذي دعا محمد لطفي جمعة ليطرح السؤال التالي في مجلة الهلال سنة 1922 ووجهه إلى المفكرين العرب في معرض الحديث عن النهضة العربية يقول : هل المقصود بالأقطار العربية وبالمعنى الصحيح ، أي بلاد العرب بحجازها ونجدها ويَمَنِها وحضرموتها ؟ أم البلاد التي فتحها العرب في صدر الإسلام وبقيت حتى الآن سائرة على أنظمة العرب ؟ أم البلاد التي يتكلم أهلها باللغة العربية بقطع النظر عن تبعيتهم ودينهم ، أم البلاد التي تدين بالإسلام وتخضع للمدنية العربية بحكم لغة القرآن ؟ 0
ولما أصحبت الوحدة القومية العربية ضمن هذا الواقع هدفا وحلما بعيد المنال في ظل واقع خضعت فيه الأقطار العربية عدا نجد والحجاز لسيطرة جيوش الاحتلال الأوربية والتي كان من أهدافها التضييق على الفكرة القومية بل ومحاولة قتلها بعد اغتيال الحلم الأكثر شمولية واتساعاً والذي مثَّل واقعاً قريب قبل سنين ، ولَّدَ هذا الاضطراب أفكارا أضيق مساحة وأخطر أثرا ألا وهي الدعوة للقطرية من خلال مفهوم الوطنية 0
والحق يقال لم يكن الاحتلال الأجنبي وحده وهو الذي قطع أوصال الأمة العقبة الوحيدة في وجه الإحساس القومي والجامعة العربية ، فالنزعات الإقليمية الانفصالية كانت وربما في مستوى خطورة الاحتلال نفسه إن لم تكن في بعض حالاتها أشد خطورتها مع إدراك المحتل لأهمية هذه النزعات في تقويض الفكرة القومية والوطنية معاً 0
ففي بلاد الشام مثلا والتي قسمها المحتل إلى سورية ولبنان وفلسطين والأردن 0 يذهب الفرنسيون بعيدا في ذلك ليُقسموا سورية إلى خمسة دويلات بحكومات ووزارات والأخطر من ذلك فلقد أصبح الناس مطالبون بالولاء للدولة التي قد حسبوا عليها والذي زاد الطين بلة أن المحتل كان المتحكم الوحيد في التعليم ليحول بذلك بين الجيل ومعرفة تاريخ كفاحه وحتى القريب القريب منه ، وحتى الشيوخ الذين عاشوا وعانوا الواقع القريب تعايش قسم كبير منهم مع الواقع الجديد ليوصفوا بهذا السلوك الجديد بالعقلانية وربما نجد بعض مكافحي الأمس يمد يده للأجنبي الذي يبطش بكل شيء في حين لم يبق سوى قلة منهم أولئك الذين نذروا أنفسهم للنضال وآثروا أن تنتهي حياتهم به0
وينشط المحتل في تدعيم قداسة الأوطان الجديدة بشكل مباشر وغير مباشر من خلال إحياء تاريخ خاص مستقل لكل قطر من الأقطار العربية 0وبدهاء دعم المحتلون ذلك فبدأت البعثات الأثرية بالتنقيب عن الآثار والخطورة هنا ليس في البحث عنها وإبرازها بل في تعمد نسبها القطري وليس القومي حتى إذا بدأ كل بلد يتهم بآثاره ضمن إطار الحدود القطرية وبدأ التنافس في إبرازها والتباهي بها في كل قطر تجاه القطر الأخ المجاور ونسيت الحقيقة أنها تراث أمة وليس بتراث قطر بعينه 0 عندها ترك المحتلون الأمر للعرب أنفسهم لإتمام ما غرسوه 0
ويزداد الأمر خطورة في ظهور الأنساب فمجلة المقتطف في عددها في أعداد آب 1922 ص 124 /127 تقول السوريون ساميون كنعانيون والمصريون فراعنة والعراقيون أشوريون وبابليون ومقالات أخرى للتمييز في نسب الصناعات القديمة بين البلاد العربية القطرية مكانا والعربية نسبا
لجان ظهرت خلال الحرب العالمية الأولى لكتابة تاريخ بلاد الشام ويأبى المحتل ذلك لتظهر كتابات عن تاريخ سوريا فقط 0
اليهودي الأمريكي روكفلر يتبرع بما يعادل مليوني جنيه لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر واشترط بأن تكون اللجنة المشرفة عليه لا تحوي في أعضائها سوى اثنين من المصريين بعقد مدته ثلاث وثلاثون سنة وقد صرح على لسان مندوبه المحامي الأمريكي برستد أن المعهد يهدف إلى خلق جيل من المتعصبين للفرعونية ، ترى فما هي المصلحة اليهودية في إنشاء ذلك الجيل 0
ولا ينسى المحتل إشعال الفتنة بين الشامين والمصريين فلقد وجد الإنكليز ضالتهم في بعض السوريين الذين وصلوا مصر وكان أغلبهم من اليهود وعملوا كموظفين ومرابين ، فيخاطبهم عبد الله النديم في مقال نشرته مجلة الأستاذ يوم  7 / 1 / 1893 م  ما مصر والشام إلا توأمان يسوء الاثنين ما ساء أحدهما فلم تنافر أبناؤهما وانحاز السوريون في جانب بعيد عن المصريين وإن ساكنوهم في مصر ؟ ألم يكن الأجدر بنا أن نصرف علومنا ومعارفنا وقوانا العقلية في صلاح بلادنا 00 أبراتب قدره عشرون جنيها يبيع المرء منا أخاه ووطنه بل جنسه ودينه 000 بئس والله ما وصَّلتنا إليه هذه الخزعبلات التي نسميها معارف وآدابا 000 أهلكنا أنفسنا بالعداوة في غير مصلحة جهلا وحماقة ، فضحنا أنفسنا بنقل عوراتنا للغير سفاهة وجنونا ، بعنا هيئتنا للأجنبي
أما حافظ إبراهيم فيقول :
لِمِصرَ  أَم  لِرُبوعِ  الشامِ تَنتَسِبُ      هُنا  العُلا وَهُناكَ  المَجدُ وَالحَسَبُ
رُكنانِ لِلشَرقِ لا زالَت  رُبوعُهُما      قَلبُ  الهِلالِ  عَلَيها  خافِقٌ  يَجِبُ
إِذا  أَلَمَّت   بِوادي  النيلِ   نازِلَةٌ      باتَت لَها راسِياتُ الشامِ  تَضطَرِبُ
وَإِن دَعا في ثَرى الأَهرامِ ذو أَلَمٍ      أَجابَهُ   في  ذُرا  لُبنانَ    مُنتَحِبُ
لَو أَخلَصَ  النيلُ  وَالأُردُنُّ  وُدَّهُما     تَصافَحَت  مِنهُما الأَمواهُ وَالعُشُبُ
ويعبر عن نفس الحالة
هَذي يَدي عَن بَني مِصرٍ تُصافِحُكُم    فَصافِحوها  تُصافِح نَفسَها  العَرَبُ
فَما   الكِنانَةُ  إِلّا الشامُ  عاجَ عَلى    رُبوعِها   مِن  بَنيها   سادَةٌ  نُجُبُ
لَولا   رِجالٌ  تَغالَوا  في سِياسَتِهِم    مِنّا   وَمِنهُم   لَما  لُمنا  وَلا عَتَبوا
إِن   يَكتُبوا    لِيَ ذَنباً في مَوَدَّتِهِم    فَإِنَّما  الفَخرُ في  الذَنبِ الَّذي كَتَبوا
 لكن ردة فعل شوقي لم تكن كذلك عند يخاطب توت عنخ آمون
مَلِكَ    المُلوكِ     تَحِيَّةً       وَوَلاءَ   مُحتَفِظٍ   أَمين
هَذا    المُقامُ     عَرَفتُهُ       وَسَبَقتُ   فيهِ  القائِلين
وَوَقَفتُ   في     آثارِكُم       أَزِنُ   الجَلالَ  وَأَستَبين
وَبَنَيتُ في العِشرينَ مِن       أَحجارِها شِعري الرَصين
كُنتُم   خَيالَ   المَجدِ يُر       فَعُ    لِلشَبابِ الطامِحين
وَكَم   اِستَعَرتَ  جَلالَكُم       لِمُحَمَّدٍ         وَالمالِكين
تاجٌ   تَنَقَّلَ   في  الخَيا       لِ فَما اِستَقَرَّ عَلى  جَبين
والأكثر سوءا أن نجد السوريون في مصر موزعين بين الاتجاه الفرنسي والذي تمثله الأهرام والإنكليزي الذي تمثله المقطم والمقتطف وهو أمر ليس بمستغرب فالفرنسيين والإنكليز كانوا يدعمون كل اتجاه غير قومي على الساحة العربية 0
والإنكليز أيضاً فقد دعموا حزب الأمة الذي أنشئ 1907 وكان من أبرز أعضائه محمد عبده الذي نال تأييد كرومر مع العديد من الأسماء المناهضة للخديوي بصفته يدعو للجامعة العربية أمثال مصطفى فهمي ورياض زغلول وسعد زغلول وقاسم أمين  ففي مقال له في جريدة الوقائع ينشر مقال للتفاني بالوطنية ولا يخفي محمد عبد تأثره بمبادئ الثورة الفرنسية في نهاية المقال وفيه يؤكد أن التعصب هو الرابطة التي شكل بها الله الشعوب ويفسر التعصب بالنعرة للجنس ومرجعها النسب والاجتماع في مكان واحد
ويزداد الاضطراب وتتباين فكرة الانتماء عند المفكرين فنجد قلقا في التفكير تجاه القادة والأوضاع لدرجة الضياع عند أصحاب الفكر فمنهم من يوالي المحتل إلى درجة الولاء والتفضيل على ولائه للوطن والانتماء الوطني فحافظ إبراهيم نجده يمتدح الملك إدوارد ويرفع من قدره إلى مصاف الفاروق عمر رضي الله عنه
اليَومَ   يَلثِمُ   تاجُ العِزِّ  مُحتَشِماً     رَأساً  يُدَبِّرُ   مُلكاً    يَكلَأُ    البَشَرا
يَؤولُ عَرشُكِ مِن شَمسٍ إِلى قَمَرٍ    إِن غابَتِ الشَمسُ أَولَت تاجَها القَمَرا
يُصَرِّفُ الأَمرَ مِن مِصرٍ  إِلى عَدَنٍ   فَالهِندِ   فَالكابِ  حَتّى  يَعبُرَ  الجُزُرا
إِدوارُ دُمتَ وَدامَ المُلكُ    في رَغَدٍ   وَدامَ    جُندُكَ   في  الآفاقِ مُنتَصِرا
هُم   يَذكُرونَكَ  إِن  عَدّوا عُدولَهُمُ   وَنَحنُ  نَذكُرُ  إِن   عَدّوا  لَنا  عُمَرا
كَأَنَّما   أَنتَ  تَجري  في   طَريقَتِهِ   عَدلاً   وَحِلماً  وَإيقاعاً  بِمَن  أَشِرا
أما أحمد نسيم فيتحول ثلاثة مئة وستين درجة في مدحه لكرومر
إننا نعرف   الملوك   ولكن       إن عددناهمُ  فأنت     المقدم
وإذا قيل   أين أعظم   منه       لم نجد للتقى سوى اللَه أعظم
ليس  إلا إياك مولى  مفدى       يبدأ    القول في ثناه  ويختم
ويخاطب الشعب المصري فيقول :
يا قوم مصر ولم   أنظر لكم أثرا       إذا المعالي دعت قومي  دواعيها
أتفخرون        بآثار     لغيركمُ       الظلم   شيدها     والدهر  يبليها
إلى م تبغون    ملكا عز   جانبه       وتبلغون من  الدعوى    تناهيها
وتفرحون  بما  خوفو بنى   لكمُ       وتمدحون   من الأهرام     بانيها
قومي ألم   تكن  الأهرام   قائمة      من قبل إن تدخلوا مصراً وواديها
فأي فخر   لكم   فيما    نشاهده       يا أمة  نسيت   في الذل ماضيها
ويُهاجَمُ نسيم من قبل الشعراء والمفكرين ليعود إلى مدح مصر وشعبها 0 وعلى مستوى الكتاب نرى تلك الصورة فسلامة موسى في كتابه ( اليوم والغد ) الذي نشر على شكل مقالات بين عام 1925 / و1926 يقول في مقدمته : ( كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي في الدب كما أزاوله ، فهي تتلخص في أنه يجب علينا أن نلتحق بأوروبا ، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني 0 وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها ، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها 0 هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهرة فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب0 )
أما طه حسين في كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) الذي نشر في سنة 1938 فيرى : أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ، ولنكون لهم شركاء في الحضارة ، خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، ما يحب منها وما يكره ، وما يحمد منها وما يعاب )
وتنشأ نتيجة هذه الحالة معارك على صفحات الجرائد بين كل أصحاب الاتجاهات لتبلغ المعركة أشد فصولها في نهاية الحرب الأولى وليشترك الناس مع الكتاب في فصولها وليستخدم فيها أشد الألفاظ وأعنفها في مهاجمة الآخر وكان الناس يبيتون وهم ينتظرون ما ستأتي به الصحف في اليوم التالي في وقت عمت البلد أجناس مختلفة جاءت بها الحرب العالمية خلال أربع سنوات يهمون نهارا ويعسون ليلا وراء الخمر والقمار ودور البغاء المرخصة وغير المرخصة وتعرض الناس لصخب المخمورين على أنفسهم وأعراضهم وكثر السماسرة ولا سيما سماسرة البغاء ويصف المنفلوطي تلك الفترة في كتابه النظرات فيقول : بعنوان ( المرقص )
رأيت الدنانير ذائبة في الكؤوس ، والعقول جامدة في الرؤوس ، والحبائل منصوبة لاستلاب الجيوب ، والسهام مسددة لاصطياد القلوب 0 و رأيت من كنت أحسبه أوفر الناس عقلا , وأذكاهم قلبا ، ومن كنت أراه فأغضي بين يديه إجلالا ، واقعا في حبائل بغي تقيمه وتقعده ، وتطويه وتنشره وتعبث فيه عبث الطفلة بلعبتها ، وهو في غير هذا المكان قيصر الرومان عزة وفخرا ، وكسرى فارس أنفة واستكبرا ) ويستطرد المنفلوطي في العبث باللغة العربية عبثا يهدمها فيقول :
ولا يستحون من نسج أنشيد هابطة مثل  قولهم ( أبيع هدمي عشان بوسة ، من خدك القشطة يا ملبن ، يا حلوة زي البسبوسة ، يا مهلبية كمان أحسن )
لقد مثل طه حسين قمة التطرف في التجديد ومثل الرافعي قمة المحافظ على القديم فالرافعي يصور في كتابه ( المعركة بين القديم والجديد ) والذي صدر1926  في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي دعاة التجديد بقصة أبو خالد النميري والذي تروي كتب الأدب أنه ولد في البصرة ونشأ في القرن الثالث الهجري ثم خرج إلى البادية أياماً يسيرة ، وعاد يتجافى في ألفاظه ويتكلف لغة الأعراب حتى لقد روي أنه رأى الميازيب على سطوح الدور فأنكرها وقال ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا ؟ والرجل إنما ولد في البصرة ونشأ بها ولم يقم في البادية إلا أياماً ) ويمثل بذلك أنصار الجديد ص36 المعركة بين القديم والجديد 
ومن بين هؤلاء نجد بعض العقلاء من دعاة الوسطية في سوريا كإدوارد مرقص فلقد نشرت له مجلة الهلال مقلا يبين أن التطور سنة الحياة : إذا كان حزب الجمود والتقييد الذي أسلفنا فالجا للغة العربية يشلها عضواً عضواً ثم يقضي عليها بالموت ، ولكن وبعد مهلة من الزمان ، فإن حزب الإطلاق - وهو حزب الفوضى – التي يحسبها تجدداً بمثابة السكتة القلبية لها يقتلها لساعتها ، إذا مكنه منها سائر أبنائها – والعياذ بالله 0 )
ويصل الأمر إلى حالة من الخلل نتيجة تشتت الآراء والاتجاهات تظهر من خلال الناس كحالة من حالات عدم أللانتماء لأحد 0
ولعل قصيدة أحمد محرم تصور الحالة أصبح عليها الناس
أكل امرئ في مصر  يسعى  لنفسه     ويطلب   أسباب  الحياة   لذاته
يرى نفســه فوق  الملائك  عفة     وإن  ملأ  الدنيا  ضجيج  نعاته
إذا نـال  ما يرجوه لم يعنه  امرؤ     سواه  ولم  يحفل بطول  شكاته
يظل   كأن   الحق   يتبع   خطوه     إذا سار يبغي الغُنم بطول شكاته
سواء عليه منزل السخط والرضى     إذا  نال  ما يرضيه من شهواته
يرى الديـن والدنيا  ثراء  يصيبه     وقصرا تزل   العينُ عن شرفاته
يفوق الصلاب الصمَ إن سيم[2] نائلا     ويعتد   لج   البحر  من حسناته
ويجهل ما يدري الصبـي ويدَّعي     من  العلم   ما ينسيك ذِكرَ  ثقاته
ويأتيك    بالأخبار   يزعم   أنها      بقية   وحيٍ  وهي  من  نزعاته
ويحلف ما داجى  ولا خان صاحبا     وقد عَبَّ سيلَ الغدرِ  في لحظاته
لعمري لقد مارست  دهري وأهله     فأرْبَتْ   مساويهم   على  نكباته
وفي الختام تصحو نفوس بعض المفكرين لتحمل الألم العربي أين كان موقعه كمقولة لكل عابث همه الوحيد تمزيقها أملاً بضعف بدأ ولن ينتهي واستغلالا لمشكلات سطحية كفقاعات زبد لا تغني عن السيل العربي شيئا 0
ويؤكد أصحاب الفكر الثابت أن الرابطة القومية العربية هي الدم الذي به يحيا العرب جميعا ويعبر الشاعر العراقي رضا الشبيبي يسجل وحدة الوطن العربي وتعاطفه مع أبنائه ضمن هذا الخضم من الاضطراب فيقول
ببغداد أشتاق  الشآم  وها  أنا      إلى الكرخ من بغداد جم التشوق
فما أنا في أرض الشآم بمُشْئم      ولا أنا  في أرض العراق بمُعرق
هما   وطن  فرد وقد فرقوهما      رمى الله بالتشتيت شمل المفرق
ويتوجه شوقي إلى أبناء سورية مطالبا بالوحدة الوطنية ضد الفرنسيين
بَني    سورِيَّةَ   اِلتَئِموا كَيَومٍ       خَرَجتُم   تَطلُبونَ  بِهِ النِزالا
سَلو   الحُرِيَّةَ   الزَهراءَ عَنّا       وَعَنكُم   هَل   أَذاقَتنا الوِصالا
وَهَل نِلنا   كِلانا   اليَومَ   إِلّا       عَراقيبَ   المَواعِدِ   وَالمِطالا
عَرَفتُم مَهرَها  فَمَهَرتُموها دَماً       صَبَغَ   السَباسِبَ[3]  وَالدِغالا
وَقُمتُم دونَها   حَتّى    خَضَبتُم       هَوادِجَها الشَريفَةَ وَالحِجالا
دَعوا في الناسِ   مَفتوناً جَباناً       يَقولُ الحَربُ قَد كانَت وَبالا
ويعود حافظ إبراهيم ليشترك مع غيره في المطالبة بالوحدة العربية
بَلابِلَ وادي النيلِ  بِالمَشرِقِ  اِسجَعي    بِشِعرِ    أَميرِ   الدَولَتَينِ    وَرَجِّعي
أَميرَ  القَوافي  قَد   أَتَيتُ     مُبايِعاً     وَهَذي وُفودُ الشَرقِ  قَد  بايَعَت مَعي
فَغَنِّ   رُبوعَ  النيلِ  وَاِعطِف  بِنَظرَةٍ    عَلى ساكِني النَهرَينِ وَاِصدَح  وَأَبدِعِ
وَلا تَنسَ   نَجداً  إِنَّها  مَنبِتُ  الهَوى    وَمَرعى المَها مِن   سارِحاتٍ  وَرُتَّعِ
وَحَيِّ   ذُرا  لُبنانَ   وَاِجعَل   لِتونُسٍ    نَصيباً مِنَ   السَلوى   وَقَسِّم وَوَزِّعِ
فَفي الشِعرِ حَثُّ   الطامِحينَ إِلى العُلا    وَفي  الشِعرِ  زُهدُ الناسِكِ المُتَوَرِّعِ
مَلَأنا  طِباقَ  الأَرضِ وَجداً    وَلَوعَةً    بِهِندٍ   وَدَعدٍ   وَالرَبابِ     وَبَوزَعِ
وَمَلَّت   بَناتُ    الشِعرِ   مِنّا  مَواقِفاً    بِسِقطِ   اللِوى   وَالرَقمَتَينِ   وَلَعلَعِ
وَأَقوامُنا في الشَرقِ قَد  طالَ  نَومُهُم    وَما   كانَ    نَومُ   الشِعرِ بِالمُتَوَقَّعِ
تَغَيَّرَتِ    الدُنيا   وَقَد   كانَ   أَهلُها    يَرَونَ   مُتونَ  العيسِ  أَليَنَ مَضجَعِ
وَكانَ   بَريدُ   العِلمِ  عيراً    وَأَينُقاً     مَتى يُعيِها  الإيجافُ في البيدِ  تَظلَعِ
عَرَفنا مَدى الشَيءِ القَديمِ فَهَل  مَدىً    لِشَيءٍ   جَديدٍ  حاضِرِ النَفعِ   مُمتِعِ
لَدى كُلِّ   شَعبٍ   في  الحَوادِثِ عُدَّةٌ    وَعُدَّتُنا   نَدبُ     التُراثِ   المُضَيَّعِ
وَكَيفَ   يُوَقّى   الشَرَّ أَو يَبلُغُ  المُنى    عَلى ما نَرى مِن شَملِهِ   المُتَصَدِّعِ
فَإِن    كُنتَ   قَوّالاً   كَريماً   مَقالُهُ     فَقُل في سَبيلِ النيلِ وَالشَرقِ أَو دَعِ
وبعد فإن مجريات الأحداث في الحرب العامة الأولى أعطت المسألة الشرقية مظهرا علنيا للمخططات الغربية من الناحية السياسية حيث أعلنت بريطانية الحماية على مصر سنة 1914 م والتي تعتبر أهم جزء حيوي من أجزاء الدولة العثمانية وكان إعلان الحماية تحصيل حاصل فمصر خاضعة للإنكليز منذ سنة 1882 م ، وبريطانية كانت تظهر الحفاظ على أملاك الدولة العثمانية والدفاع عنها ولا سيما من أطماع ألمانية إلا أن دخول الدولة العثمانية إلى جانب ألمانية في الحرب العالمية الأولى إضافة لما فعله جمال باشا في بلاد الشام من مذابح منحها الفرصة لتظهر بمظهر المدافع عن القضية العربية ضد تركيا
كما أعطت الحرب العامة الأولى فرصة لليهود لتنفيذ مخططاتهم في الحصول على جزء من الأرض العربية ( فلسطين ) وبدأت أجزاء الأرض العربية تتهاوى خضوعا للاحتلال دون أن نستثني جزأ منها سوى الحجاز 0بعد أن ظن قادة العرب وقتها أنهم قد أصبحوا قاب قوسين أو أنى من إقامة الدولة العربية 0
مشروعات وطروحات جديدة ظهرت كبديل لوحدة الأمة العربية فمشروع الهلال الخصيب و وادي النيل والمغرب العربي ، لكنها ماتت في أرضها لأنها مقولات لاتغني عن الحق شيئا والحق أن لهذه حق بأن تعود متحدة من جزر الخالدات غربا وحتى جبال بشت كويه شرقا
لقد كسب العرب المعركة من المحتلين وقتها وحصلت الأقطار العربية على استقلالها لكن الصهاينة لازالوا في قلب هذه الأمة وبالتالي فالمعركة مع الصهاينة لم تنته بعد0
المصادر التاريخية
1-   الدولة العلية محمد فريد
2-   أعمدة الحكمة السبعة توماس إدوارد لورانس
3-   الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864 – 1914 الدكتور عبد العزيز محمد عوض
4-   أعمدة الحكمة السبعة توماس إدوارد لورانس
5-   المسألة الشرقية محمود الشاذلي
6-   بدائع الزهور في وقائع الدهور محمد بن إياس الحنفي المصري
7-   الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر محمد محمد حسين
8-   الدولة العلية محمد فريد
9-   المسألة الشرقية محمود الشاذلي
10- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر محمد محمد حسين 
11- طه حسين مستقبل الثقافة في مصر
12-ديوان أحمد شوقي
13-ديوان حافظ إبراهيم
14-ديوان أحمد محرم
15-ديوان أحمد نسيم
16-كيف سقطت الدولة العثمانية
17– العبرات للمنفلوطي



[1] يقول أبو العلاء
ت تَلَقَّبَ  مَلِكٌ  قاهِراً  مِن  سَفاهَةٍ       وَلِلَّهِ    مَولاهُ    المَمالِكُ    وَالقَهرُ
َطَهَّر   بِبُعدٍ    مِن  أَذاها  وَكَيدِها       فَتِلكَ    بَغيٌّ   لا يَصِحُّ   لَها   طُهرُ
أَتَغضَبُ  أَن  تُدعى  لَئيماً   مُذَمَّماً       وَحَسبُكَ   لُؤماً  أَنَّ    والِدَكَ  الدَهرُ
تَزَوَّجَ     دُنياهُ    الغَبِيُّ    بِجَهلِهِ       فَقَد نَشَزَت  مِن  بَعدِ ما قُبِضَ المَهرُ
تَطَهَّر     بِبُعدٍ   مِن أَذاها وَكَيدِها       فَتِلكَ   بَغيٌّ  لا  يَصِحُّ   لَها    طُهرُ
وَأَنفَقتُ   بِالأَنفاسِ  عُمري مُجَزِّئاً       بِها  اليَومَ  ثُمَّ  الشَهرَ يَتبَعُهُ  الشَهرُ
يَسيراً   يَسيراً  مِثلَ ما أَخَذَ المَدى       عَلى الناسِ ماشٍ في جَوانِحِهِ   بُهرُ
كَذَرٍّ   عَلى  ظَهرِ  الكَثيبِ فَلَم يَزَل        بِهِ السَيرُ حَتّى صارَ مِن خَلفِهِ الظَهرُ
[2] السيم العرف على الجبل المخالف لطبيعته رق في الجبل مخالف لجبلته إذا أخذ من المشرق إلى المغرب لم يخلف أن يكون فيه معدن فضة والجمع سام وقيل السام عروق الذهب والفضة في الحجر
[3] شجر تصنع من تصنع منه السهام