الخميس، 26 مارس 2020

الندامة ومن أبي غبشان وجبلة بن الأيهم نتعلم


صَبِيحَةٌ مُبارَكَةٌ
إِخْوَتِي أَخَوَاتِي
الندامة ومن أبي غبشان وجبلة بن الأيهم نتعلم
وهل تفيد الندامة أحداً باع دينه ونفسه ، أو مقدساته ، وبعرض زائل . وأصل الندامة غم يصحب الإنسان يتمنى أن ما وقع منه لم يقع . فأبو غبشان رجل من قَبِيلَةِ خُزَاعَة كَانَ يَلِي الْبَيْت الْحَرَام فَاجْتمع مَعَ قصي بن كلاب بِالطَّائِف على الشّرْب فَلَمَّا سكر اشْترى مِنْهُ قصي بن كلاب ولَايَة الْبَيْت بزق خمر وَأخذ مِنْهُ مفاتيحه وطار بهَا إِلَى مَكَّة وَقَالَ معاشر قُرَيْش هَذِه مَفَاتِيح بَيت أبيكم إِسْمَاعِيل ردهَا الله عَلَيْكُم من غير عذر وَلَا ظلم وحين أفاق أَبُو غبْشان ندم فَقيل أندم من أبي غبشان وأخسر من أبي غبشان وأحمق من أبي غبشان فَقَالَ بَعضهم :
باعت خُزَاعَة بَيت الله إِذْ سكرت ... بزق خمر فبئست صَفْقَة البادي
باعت سدانتها بِالْخمرِ وانقرضت ... عَن الْمقَام وظل الْبَيْت والنادي
ثمَّ جَاءَت خُزَاعَة فقاتلت قصياً فَغَلَبَهُمْ . وأما جبلة الأيهم بن أبي شمر الغسّاني لما أراد أن يسلم كتب إلى عمر بن الخطاب من الشام يعلمه بذلك ويستأذنه في القدوم عليه. فسرّ بذلك عمر والمسلمون، فكتب إليه أن اقدم ولك مالنا وعليك ما علينا، فخرج جبلة في خمسمائة فارس من عكّ وجفنة، فلما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس يومئذ جبلة تاجه وفيه قرط مارية، وهي جدّته فلم يبق يومئذ بالمدينة أحدّ إلا خرج ينظر اليه، حتى النساء والصبيان، وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه، حتى حضر الموسم من عامه ذلك مع عمر ابن الخطاب؛ فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطيء على إزاره رجل من بني فزارة فحلّه، فالتفت إليه جبلة مغضبا. فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب. فبعث إليه فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت أنفه؟ فقال: إنّه وطيء إزاري فحلّه، ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي فيه عيناه. فقال له عمر: أمّا أنت فقد أقررت. إمّا أن ترضيه وإلا أقدته منك قال: أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال: يا جبلة، إنه قد جمعك وإيّاه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا بالتّقى. قال: والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك ذلك. قال: إذن أتنصّر. قال: إن تنصّرت ضربت عنقك. قال: واجتمع قوم جبلة وبنو فزارة فكادت تكون فتنة، فقال جبلة: أخّرني إلى غد يا أمير المؤمنين. قال: ذلك لك. فلما كان جنح الليل خرج جبلة وأصحابه، حتى دخل القسطنطينية على هرقل، فتنصّر وأقام عنده، وأعظم هرقل قدوم جبلة، وسر بذلك وأقطعه الأموال والأرضين والرّباع. ثم بعث عمر بن الخطاب رسولا إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فأجابه إلى المصالحة على غير الإسلام، فلما أراد أن يكتب جواب عمر قال للرسول: ألقيت ابن عمك هذا - الذي ببلدنا- يعني جبلة- الذي أتانا راغبا في ديننا؟ قال: ما لقيته. قال: القه، ثم ائتني أعطك جواب كتابك. وذهب الرسول إلى باب جبلة، فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثرة الجمع مثل ما على باب هرقل. قال الرسول: فلم أزل أتلطف في الإذن حتى أذن لي، فدخلت عليه، فرأيت رجلا أصهب اللحية ؛ وكان عهدي به أسمر أسود اللحية والرأس. فنظرت إليه فأنكرته، وهو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسود من ذهب، فلما عرفني رفعني معه في السرير، فجعل يسائلني عن المسلمين، فذكرت خيرا، وقلت: قد أضعفوا أضعافا على ما تعرف. فقال: كيف تركت عمر بن الخطاب؟ قلت: بخير. فرأيت الغم قد تبيّن فيه لما ذكرت له من سلامة عمر. قال: فانحدرت عن السرير. فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ قلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا. قال: نعم، صلّى الله عليه وسلّم، ولكن نقّ قلبك من الدّنس ولا تبال علام قعدت. فلما سمعته يقول: صلّى الله عليه وسلّم طمعت فيه، فقلت له: ويحك يا جبلة! ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضله؟ قال: أبعد ما كان مني؟
قلت: نعم، قد فعل رجل من بني فزارة أكثر مما فعلت: ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف، ثم رجع إلى الإسلام وقبل ذلك منه وخلّفته بالمدينة مسلما. قال: ذرني من هذا؛ إن كنت تضمن لي أن يزوّجني عمر ابنته ويولّيني الأمر بعده رجعت إلى الإسلام. قلت: ضمنت لك التزويج ولم أضمن لك الإمرة. قال: فأومأ إلى خادم بين يديه، فذهب مسرعا، فإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت، ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضة، وقال لي: كل، فقبضت يدي. وقلت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة. فقال نعم صلّى الله عليه وسلّم، ولكن نقّ قلبك وكل فيما أحببت. قال: فأكل في الذهب والفضة وأكلت في الخليج ( جفنة ) وتحدث الرسول عن أمور تثير العجب من جوار وطيور مدربة ... وقال ذاكرني في شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه وبكى ثم قال يظهر الندامة
تنصّرت الأشراف من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنّفني منها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ترى هل تفيد الندامة من كان سببا ً في دمار الوطن وهلاك الأهل ؟
هل هم سعداء بما فعلوا ؟ أم أن الندامة قد اعترهم ؟
يا رب فرج عن سوريا وأهل سوريا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جمهرة الأمثال - العسكري(1/ 387)
العقد الفريد (1/ 314)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق