السبت، 28 ديسمبر 2019

قد يقتل المرء لسانه ومن طرفة بن العبد نتعلم


صَبِيحَةٌ مُبارَكَةٌ
إِخْوَتِي أَخَوَاتِي
قد يقتل المرء لسانه
ومن طرفة بن العبد نتعلم
إن أحسن الرجل منا القول قد ينال الثناء ، وإن أساء فكثيرا ما أورد المرء لسانه إلى التهلكة وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَقُولُ كُلِّهِ وَيُكْتَبُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟»
وممن قتله لسانه طرفة بن العبد وُلد في البحرين في بيت عريق الأصل ، فقد والده في سن مبكرة فنشأ يتيم الوالد ينفق بغير حساب فضيّق عليه أعمامه ورفضوا أن يعطوه حقه، وجاروا على أمّه، فظلموها حقها . وهو أحد فحول الشعراء وصاحب المعلقة التي يقول فيها
لِخَوْلَةَ أَطْلالٌ ببُرقَةِ ثَهْمَدِ ... تَلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهر اليَدِ
نشأ شاعرنا حاد الذكاء فخوراً تياهاً بشعره، لم يراع حرمة لقريب أو كبير فقد سمع خاله المتلمس وهو من فحول الشعراء مرة يقول: وقد أتناسى الهم عند احتقاره ... بناجٍ، عليه الصيعرية، مكدم
فقال طرفة: ((إستنوق الجمل)) لأن الصيعرية سمة للنوق فضحك القوم وغضب خاله ثم قال: ويل لهذا الفتى من لسانه.
وقد صحت مقولة المتلمس فيه فقد جنى عليه لسانه وأودى به إلى القتل. وقد تضاربت الروايات حول قصة مقتله إلا أن أكثرهم يؤكد حقيقة دامغة وهي أن أخته كانت عند عبد عمرو بن بشر وكان من سادات قومه فجار على أخت الشاعر وظلمها فشكته إليه فهجاه طرفة بقصيدة يقول فيها:
ولا خير فيه غير أن له غنىً ... وإن له كشحاً إذا قامَ أهضما
وكان من أفحش الهجاء عند العرب أن تصف رجلاً بوصف النساء فكيف بصهره صاحب الخصر النحيل الذي يشبه خصور النساء؟ واتفق بعدها أن عمرو بن هند خرج يوماً للصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفرٍ من أصحابه حتى أصاب طريدته فنزل وقال لأصحابه اجمعوا حطباً، وفيهم عبد عمرو بن بشر صهر طرفة. فقال لهم عمرو: أوقدوا فأوقدوا وشووا. فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو بن بشر يقدم إليه إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقاً فأبصر كشحه، وكان من أحسن أهل زمانه جسماً فقال له عمرو بن هنج: يا عبد عمرو لقد أبصر طرفة كشحك حيث يقول:
ولا خير فيه غير أن له غنىً ... وإن له كشحاً إذا قامَ أهضما
فغضب عبد عمرو وقال: لقد قال في الملك أقبح من هذا, فقال عمرو بن هند: وما الذي قال؟ فندم عبد عمرو على الذي سبق منه وأبى أن يسمعه ما قال. فقال اسمعنيه وطرفة أمين. فأسمعه القصيدة التي يقول فيها طرفة:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً، حول قبتنا تخورُ
لعمرك إن قابوس بن هندٍ ... ليخلط ملكه نوك كثيرُ
فسكت عمرو على ما وقر في نفسه وكره أن يُعجل على طرفة لمكان قومه، فلما طالت المدة ظن طرفة أنه قد رضي عنه وكان المتلمس قد هجا عمرو بن هند أيضاً. فقدما إليه فجعل يريهما المحبة ليأنسا به، فلما طال مقامهما عنده قال لهما: لعلكما اشتقتما إلى أهلكما. قالا: نعم. فكتب لهما إلى عامله بالبحرين وهجر واسمه ربيعة بن الحارث العبدي. ولقبه المعكبر فلما هبطا النجف وقيل أرضاً قريبة من الحيرة، إذ هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرز ويقتل القمل. فقال له المتلمس: بالله ما رأيت شيخاً أحمق منك ولا أقل عقلاً. فقال له الشيخ: وما الذي أنكرت علي؟ فقال: تتبرز وتأكل وتقتل القمل! قال: إني أُخرج خبيثاً وأدخل طيباً وأقتل عدواً. ولكن أحمق مني من يجعل حتفه بيمينه وهو لا يدري، فتنبه المتلمس فإذا هو بغلام من أهل الحيرة فقال له: يا غلام أتقرأ؟ قال: نعم. ففتح كتابه ودفعه إليه فلما نظر إليه قال: ثكلت المتلمس أمه. وإذا في الكتاب: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً. فرمى المتلمس صحيفته في نهر يقال له كافر ثم تبع طرفة ليدركه وقال له: تعلم أن ما كتب فيك إلا بمثل ما كتب فيّ. فقال طرفة: إن كان قد اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي. فهرب المتلمس إلى الشام وانطلق طرفة إلى العامل المذكور، حتى قدم عليه بالبحرين وهو بهجر ، فدفع إليه كتاب عمرو بن هند فقرأه فقال: تعلم ما فيه؟ قال: نعم أُمرتَ أن تجيزني وتُحسن إلي. فقال له العامل: إن بيني وبينك خؤولة أنا لها راع. فاهرب من ليلتك هذه فإني قد أمرت بقتلك فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال له طرفة: اشتدت عليك جائزتي وأحببت أن أهرب وأجعل لعمرو بن هند عليّ سبيلاً، كأني أذنبت ذنباً والله لا أفعل ذلك أبداً. فلما أصبح أمر بحبسه وجاءت بكر بن وائل فقرأ عليهم كتاب الملك. وأرسل إلى عمرو بن هند أن ابعث إلى عاملك فإني غير قاتل الرجل، فبعث إليه عمرو بن هند رجلاً من بني تغلب يقال له عبد هند واستعمله على البحرين وكان رجلاً شجاعاً وأمره بقتل طرفة فقتله، فقبره معروف بهجر
فقضى كرفة ولما يكمل العقد الثالث من عمره وقد رثته أخته الخرنق بأبيات تقول فيها:
عددنا له ستاً وعشرين حجةً ... فلما توفاها استوى سيداً ضخما
ترى فهل نحن ممن جررنا البلاء على أنفسنا بألستنا
ــــــــــــــــــ
خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 73)
ديوان طرفة بن العبد (ص: 3)
شرح المعلقات السبع للزوزني (ص: 89)
===
(1) الرغوث: الناقة المرضعة.
(2) النوك: الحماقة.
(3) وقر: سمع.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق