الجمعة، 24 يناير 2020

القعقاع بن عمرو صوته خير من ألف رجل


صَبِيحَةٌ مُبارَكَةٌ
إِخْوَتِي أَخَوَاتِي
القعقاع بن عمرو
صوته خير من ألف رجل
هكذا قال الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يصف أثر صوته ، لقد أطلق الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مقولته هذه لا للترويج ولا للتضليل معاذ الله ، بل مقولة حق وصدق ، وهو الذي قد خبر الرجال وخبر فعالهم ، مقولة أصابت عين الحقيقة ، أراد قائلها أن يصف أثراً من أثار بطل وفارس شاعر من فرسان الإسلام ، تاركاً لنا أن نتصور باقي صفاته ! فصوته خير من ألف رجل ولم يقل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صوته خير من ألف فقط بل هناك تأكيد على كلمة رجل ، كان فارسا وكان بطلا ، وكان حكيما ً وكان عاقلا ، ويمكن أن نعتبره من فرسان الملمات لدى المسلمين ، فلم يكن القعقاع مع أبي بكر دون عمر، ولا مع عمر دون عثمان، ولا مع عثمان دون علي y لقد كان معهم جميعا ، اتجه لنصرة عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في المدينة ليكون ردأ له ضد من عاداه ، ووقف مع علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حروبه ، ويوم الجمل كان رسوله إلى طلحة والزبير، yفكلمهما بكلام حسن ، كانت نتيجته أن تقارب الناس به إلى الصلح‏‏ وسكنت به النفوس .
أنا لست هنا في معرض للحديث عن جزئيات في حياة فارس وبطل ، ولكنني أحب من خلال الحديث أن ألفت النظر لمحات من حياة مسلم عرف مقام نفسه وأدرك أن حياته هي بحد ذاتها لا تعدو أكثر من جسر يُعبر عليه لنيل مرضاة الله تعالى ومن خلال ما آتاه الله من طاقات ، استطاع تقديرها ثم تسخيرها فيما يرضي الله ويتوافق مع الحقيقة التي آمن بها ليحول القول إلى فعل والعقيدة إلى سلوك 0
لقد كان وجيها مقدما في بني تميم ، لكن إسلامه أعطى الوجاهة معنا آخر لها لقد وجدها حيث يرضى الخالق ، لا يبالي في شيء ، فهو جندي حيناً وقائد أحيانا ولكنه هو علم واستيقن ما علم
من أين سنبدأ من اسمه وهو في أقل معانيه يرشدنا بل ويقودنا لنتذكر الأسد وهو ينهض بكبريائه وعنفوانه ، لقد مل عرينه وقد أنذرت حركة مفاصله بصوتها بقعقعتها أن القادم هو الأسد وليس غيره .
لقد جاع ولكنه جوع للحق والحقيقة لا للقتل جوع لإقرار العدل ورفع الظلم ، لقد علم القعقاع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن الإسلام قد صان الدماء كل الدماء إلا بالحق ، فلا غدر ولا اعتداء ، هي الحرب ولكن على من ظلم العباد وقيدهم ، حرب على الجهل ودعوة للعلم ، حرب ليست للإكراه بل للحرية بأعلى درجاتها وأتم معانيها ولنتذكر قول ربعي بن عامر لرستم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ..... ) ليؤمن الناس بما شاؤوا وبمن شاؤوا بعد أن يُبلّغوا أن لهذا الكون خالقاً واحدا ولا شيء غير الله جل جلاله .
لقد أدرك القعقاع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن قسط من حياته قد ضاع دون أن يعي المهمة التي خُلق الإنسان من أجلها ، فلم يتسنى
لهذا البطل أن يكون جنديا يقاتل خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فاستدرك نفسه ليصبح جنديا في صفوف من ذهب لقتال الذين من لم يثبت الإيمان في قلوبهم بعدُ ، فارتد بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذهب ليقول للناس هل من العقل أن يُنقذ الإنسان من النار ثم يُترك ليعود فيلقي نفسه فيها مرة أخرى ، وليختارها سكنا له ! هل من الحكمة أن يسمح لمن أُنقذ من النار أن يعود إليها ، لا لابد من منعه فالعقل والعلم يقولان ذلك ، بل ويقرانه .
لقد شارك القعقاع في كل المعارك منذ إسلامه وحتى وفاته والتي قيل أنها كانت في سنة أربعين للهجرة فعاش عصر الخلفاء الراشدين الأربعة ، أثبت من خلالها ما يميز المقاتل المسلم بشجاعته وفدائه وحنكته ، ولكنني سأقف عند بعض المعارك التي خاضها ألقي الضوء من خلالها على جملة من خصائص هذا الفارس الذي كان ديدنه مطاردة الموت ليلقى الله شهيدا ، ويأبى الموت أن يدركه إلا على فراشه فيموت بعد أن استيقن أنه أدى الرسالة وصان الأمانة رضي الله عنه 0
لقد بدأ المسلمون فتح العراق مع نهاية العقد الثالث من القرن السادس للميلاد ، وبدأ سيف الله خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خطاه من جنوب العراق وهو الآن في موقع مدينة الكويت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الكاظمة سابقا) حيث جرت وقائع معركة ذات السلاسل وفيها أبى هرمز إلا أن تبدأ بمبارزة خالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نزل هرمز عن فرسه مترجلا وطلب من خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فعل ذلك حتى يصبح الهرب شبه مستحيل ، وكان هرمز من فرسان العجم المعدودين إلا أن خصمه الآن خالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لذلك فأضمر ومكر ، لقد استقين الفشل وخشي الموت ، وأمر بعض فرسانه بالانقضاض على خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عند سماعهم صوته ، ولما يستطع أحد الفارسين القضاء على الآخر من خلال السيف طلب هرمز الصراع بالأيدي ليظهر تفوق خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وعندها صرخ هرمز فانقض سلة من فرسانه على خالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الذي ترك خصمه ليقي نفسه خطر الغدر ، والمسلمون يرقبون ما يحصل وهم لا يشكون بقدرة خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في القضاء على خصمه إلا أن واحدا فقط كان عينه ترقب مجريات ما يحدث بحذر ، عين على المعركة وعين أخرى ترقب حركة الأعداء فليس لأعداء ذمة بل ديدنهم المكر والخديعة ، فثار الغبار لحظة لينشق وليظهر القعقاع وبلمحة بصر جندل ثلاثة فرسان ، تاركا قتل هرمز لخالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فلقد صدق ما دار في خلده وفي نية الفرس وغدرهم . وفي يوم اليرموك خاض القعقاع أيامها مع عكرمة بن عمرو بن هشام رضي الله عنهما وهما على مجنبتي القلب وكان أول من بدأ القتال وأبلى فيها ما كان متوقع منه كفارس من الطراز المتميز في مناورته في حركته ، يهاب في جولاته ، ويخشى نزاله إلا لمن أراد أن يذوق طعم الموت للمرة الأولى والأخيرة .
وبعد جملة من فتوح الشام يأمر عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أهل الشام بإسناد أهل العراق وهم يتأهبون لمعركة القادسية وهي أخت اليرموك في أهميتها وعظمتها ، لقد كانت إبداعاً إسلاميا في أسلوب التعامل مع عدو ملك أسباب القوة من حيث المكان والعتاد والتخطيط وحجم القوات إضافة إلى أن الفرس قد حاولوا نبذ الخلافات وتوحيد الصفوف من أجل سحق تلك القوة القادمة من جزيرة العرب ووضع حدٍ نهائي لها .
لقد عرفت القادسية بأيامها فيوم أرماث وأغواث ويوم عمواس وليلة الهرير ويوم القادسية ، أحداث وأهوال تميز كل يوم ، زد على ذلك اختلاف في أسلوب العمليات العسكرية بما يتناسب ومجريات الأحداث ، فلقد بذل الفرس كل ما في استطاعتهم لتحقيق النصر وتعويض الخسائر التي حلت بهم فيما سبقها من هزائم وعبى في القلب من مقدمة جيشهم ثمانية عشر فيلا عليها التوابيت لتكون في القلب وبالفعل ، كان لها تأثيرا كبيرا تجاه خيل المسلمين .
وفي الجانب الأخر لم يشأ الله أن يحضر القعقاع أول أيامها ، لكنه كان على مقدمة النجدة القادمة من بلاد الشام بقيادة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وكان على مقدمته ، لكنه ورضي الله عنه كان على عجلة فقد أدرك أهمية وصوله ، وبحنكته وخبرته المعهودة أمر أصحابه أن يتقطعوا أعشار وهم ألف، بين العشرة والأخرى مد البصر وهكذا سرحوا ، وتقدم هو في العشرة الأولى ، لقد دخل المعركة مع إلقائه السلام على الناس سلام فيه بشارة النصر والظفر ، وانطلق صوته يحرضهم على القتال ، فليس للراحة عند أمثال هؤلاء الرجال من سبيل وصوته يجلل : أيها الناس اصنعوا كما اصنع ، ويطلب البراز، فيخرج إليه ذو الحاجب من أبطال فارس ، فعرفه القعقاع ، ونادى : يالثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب الجسر! واقتتلا ، فقتله القعقاع والفرس ينظرون للخيل تتوارد تباعاً ويستبشر المسلمون بقدوم جند القعقاع وتستمر المعركة حتى الليل حيث لم يتوقف القتال وصوت القعقاع علامة الخير يبشر المسلمين بالنصر ويزف بشارة الخزي لأعداء الله ، لا لم ينقطع صوته يا معشر المسلمين، باشروهم بالسيوف، فإنما يحصد الناس بها ، لقد قاتل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وفكره في شغل رد عسكري على سلاح الفيلة الذي استخدمه الفرس ، فأهداه الله لأمر وهو أن يحمل الفرسان على الإبل واختار من بني عمه عشرة فعشرة على إبل قد ألبست وجللت وبرقعت ، تحميهم خيول المسلمين ،وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس يتشبهون بالفيلة ففعلوا في يوم أغواث ، كما فعل الفرس في يوم أرماث، فنفرت خيل الفرس من الإبل، ولقوا منها أعظم ما لقي المسلمون من الفيلة، وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها، وقيل: وكان آخر من قتل بزرجمهر الهمذاني. ومنذ بزوغ الشمس أقبل القعقاع وأصحابه يتقدمون الكتائب ، وكأنهم قد نالوا قسطاً وافراً من الراحة ولم يقطعوا القفار من بلاد الشام دون توقف أو أن يوم أغواث كان للمتعة وليس للقتال ، أي رجال هؤلاء وأي قائد أنت يا قعقاع
وفي هذا اليوم أعاد الفرس استخدام سلاح الفيلة للتأثير على مقدمة المسلمين وخيلهم والرجالة الفرس حول الفيلة يحمونها أن تقطع أوضانها، ومع الرجالة فرسان يحمونهم ، ويرى سعد أفيال الفرس ، وقد فرقت الكتائب وعادت لفعلها، فينادي القعقاع وعاصم بني عمرو: أن أكفياني الفيل الأبيض، وكان بإزائهما والفيول كلها آلفة له.
وقال لحمال والربيل: أكفياني الفيل الأجرب وكان بإزائهما، فحمل القعقاع وعاصم برمحيهما وتقدما ووضعاهما في عيني الفيل الأبيض، فنفض رأسه، وطرح ساسته، ودلى مشفرة، فضربه القعقاع، فرمى به ووقع لجنبه، وقتلوا من كان عليه ويستمر القتال بل ويشتد حتى المساء ، ويصبر الفريقان إنها ليلة الهرير وقيل: وإنما سميت بذلك لتركهم الكلام، وإنما كانوا يهرون هريراً، وهي الليلة التي تلت يوم عمواس. وهنا يتألق أبطال الإسلام ويخرج مسعود بن مالك ألأسدي ، وعاصم بن عمرو، وقيس بن هبيرة وأشباههم، يطاردون القوم ويتقدموا الصفوف، بغير إذن سعد، وفي أولهم القعقاع فيقول سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللهم اغفرها له وانصره ، ورحا الحرب تدور على القعقاع واقتتل الناس ليلتهم إلى الصباح، لم يغمضوا ليلتهم كلها؛ وصوت القعقاع يا معشر المسلمين إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإن النصر مع الصبر وهو يوم القادسية وينصر الله جنده ويكتب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لسعد يسأله :رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أي فارس أيام القادسية كان أفرس ؟ وأي رجل كان أرجل ؟ وأي راكب كان أثبت ؟).... فكتب إليه :رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لم أر فارساً مثل القعقاع بن عمرو ! حمل في يوم ثلاثين حملة ، ويقتل في كل حملة كمِيّاً .
ترى هل في سيرة القعقاع ما يثير الغرابة ، إن قلنا نعم ظلمنا الرجل بل وعمَّ الظلم عامة جند المسلمين ، فالقصة مستمرة منذ بدر الكبرى وحتى آخر معركة يخوضها جند استيقنوا أن الله هو ربهم وأن محمداًصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو نبيهم وأن الجنة هي مآلهم
ففي كل وقت سنجد جندا الله كخالد والقعقاع وضرار وسنجد الخنساء ، وحاشا لنسب الإسلام أن ينقطع وحاشا لجند آمنوا بالإسلام منهج حياة أن لا يكونا كذلك .
وأختم بذكر بعض أشعاره وهي ترسم بحق وصدق صورة قائلها
يَدعونَ قَعقاعـاً لِـــكُلِّ كَريهَةٍ فَيُجيبُ قَعقاعٌ دُعــــاءَ الهاتِفِ
رضي الله عن صحابة رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أسد الغابة، مج4، ص433
الإصابة في تمييز الصحابة، الحافظ ابن حجر العسقلاني
تاريخ الطبري، مج4، ص484-488
الكامل في التاريخ، مج3، ص229.
البداية والنهاية، الإمام الحافظ أبو الفداء ابن كثير الدمشقي القرشي
 ************
القعقاع بن عمرو التميمي أحد فرسان العرب الموصوفين ، وشعرائهم المعروفين يقال له صحبة ، وقد روي عنه أنه شهد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-000 كان من أشجع الناس وأعظمهم بلاءً ، وسكن الكوفة000 القادسية كتب عمر بن الخطاب إلي سعد :رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ   أي فارس أيام القادسية كان أفرس ؟ وأي رجل كان أرجل ؟ وأي راكب كان أثبت ؟)000فكتب إليه :رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ   لم أر فارساً مثل القعقاع بن عمرو ! حمل في يوم ثلاثين حملة ، ويقتل في كل حملة كمِيّاً )000 اليرموك شهد القعقاع -رضي الله عنه اليرموك ، فقد كان على كُرْدوسٍ من كراديس أهل العراق يوم اليرموك ، وكان للقعقاع في كل موقعة شعر فقد قال يوم اليرموك :رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  000 ألَمْ تَرَنَا على اليرموك فُزنا00000كما فُزنـا بأيـام العـراق فتحنا قبلها بُصـرى وكانتْ00000محرّمة الجناب لدَى البُعـاق وعذراءُ المدائـن قد فتحنـا00000ومَرْجَ الصُّفَّرين على العِتَـاقِ فضضنا جمعَهم لمّا استحالوا00000على الواقوصة بالبتـر الرّقاقِ قتلنا الروم حتـى ما تُساوي00000على اليرموك ثفْروق الوِراقِ
القعقاع بن عمرو التميمي 22
يُصادف المرءُ أحياناً أموراً قد لا يخطر على باله مصادفتها أبداً؛ فأنْ يتوقع الإنسانُ وجودَ شخصية ثانوية ما في كتب التاريخ تكون موهومة في الحقيقة ولا وجود لها في الواقع أمرٌ ممكنٌ وواردُ الحدوثِ، أما أنْ يجد المرءُ مَن يُنكر وجودَ شخصيةٍ كان لها دوراً بارزاً ومهماً في التاريخ الإسلامي وقد سجَّل بطولاتها المجيدة ومواقفها الحميدة جمهورُ المؤرخين والمحدِّثين فأمرٌ لا يمكن توقُّعه!
وقد يكون السبب في عدم توقُّع مثل هذا الأمر هو أنَّ المعروف عن جميع الباحثين والمحققين في التاريخ والسِّيَر أنهم يتوخُّون الحذر في استنتاجاتهم وتقاريرهم، ويبتعدون عن الشذوذ قدر إمكانهم.. ولكن ما قرأتُه للعلامة "مرتضى العسكري" أدهشني وحيَّرني!
اهتممتُ يوماً بشخصيةٍ تُدعى "عبد الله بن سبأ" المعروف بـ: "ابن السوداء"، وقد حاولتُ في ذلك الحين أن أقرأ جميع ما يمكن الحصول عليه ممَّا كُتب عن ذاك الشخص؛ وكان سبب اهتمامي الشديد بتلك الشخصية هو الدور المنسوب لها في الفتنة التي وقعت في خلافة سيدنا عثمان بن عفان ــ رضوان الله تعالى عليه ــ، وأنها أصل بدعة الغلو في سيدنا علي بن أبي طالب ــ كرَّم الله وجهه ــ.
ومما وقع بين يديَّ من الكتب المتحدِّثة عن تلك الشخصية كتاب: "عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى"، تأليف: "السيد مرتضى العسكري". قرأتُ ذلك الكتاب، ولم يدهشني كثيراً القول بأسطورة "عبد الله بن سبأ"، ولكن أذهلني إصرار المؤلف ــ هداه الله ــ على الادعاء بأن "القعقاع بن عمرو التميمي" كان شخصية مختلقة اختلقها المؤرخ سيف بن عمر المضعَّف عند معظم علماء المسلمين.
ومع اعترافي بالجهد الكبير الذي قام به السيد مرتضى العسكري في كتابة ذلك الكتاب لا أُنكر الشذوذ الخطير في كثير من نتائج ذلك البحث واستنتاجات المؤلف فيه! ولئن وجدتُ ضالتي بخصوص قضية "عبد الله بن سبأ" الشخصية غير الحميدة في التاريخ الإسلامي فإنني لم أستطع فهم موقف مرتضى العسكري من القعقاع بن عمرو.
ولئن كان كرهه لعبد الله بن سبأ ورغبته بالدفاع عن أصحابه الشيعة وما يُرْمَوْنَ به من غلو وتطرّف دفعه إلى القول بأن عبد الله بن سبأ لم يكن سوى أسطورة، وقد كان يكفيه أن يتبرأ منه أو يبرأ الشيعة من أقواله وما يُنسب إليه من أفعال، فإنَّ ما لم يُفهم تماماً هو ما الذي دفعه إلى القول بعدم صحة وجود شخص يدعى القعقاع بن عمرو!
فهل كان ذلك منه للتشكيك بالتاريخ الإسلامي وحسب؟ أم بإثبات الاختلاق والكذب عمداً من قبل المؤرخين والمحدِّثين من أهل السنة؟ أم كره "بني تميم" عموماً والرغبة في إثارة الشك في حروب الردة..؟!
لقد كان القعقاع من فرسان العرب وشجعانهم ولا شك، وقد كان له فضلاً كبيراً في حروب المسلمين وفتوحاتهم لا سيما حروب الردة، وقد أجمع المؤرخون أنه كان من جنود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسنبين ذلك لاحقاً إنْ شاء الله.
القعقاع بن عمرو بين الأسطورة والحقيقة
قال السيد مرتضى العسكري:
{"
القعقاع بن عمرو" من مختلقات سيف بن عمر من الصحابة، ترجمناه في كتابنا "خمسون ومائة صحابي مختلق".} رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  1)
وقال: {اختلق سيف بن عمر بطولات فذَّة لأبطال أساطير من قبيلته "تميم" كالأخوين القعقاع وعاصم، ثم اخترع لهذه الأساطير رواة روى أساطيره عنهم على صورة أحاديث، فقال: حدَّثني فلان عن فلان. فأخذ منه الطبري في ذكره حرب القادسية من تاريخه، ومن الطبري أخذ ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون في تواريخهم، وترجمها الحموي في معجم البلدان، وأشار إليها ابن عبدون في قصيدته وشرحها ابن بدرون، وأوردها القلقشندى في "أيام الإسلام"، وقد أوردنا تفصيل ما ذكره سيف في هذه الأيام في ترجمة القعقاع وعاصم من كتابنا "خمسون ومائة صحابي مختلق".} رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  2)
*
القعقاع بن عمرو من فرسان جيش الخليفة أبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ:
مما جاء في التاريخ أنَّ: {خالد بن الوليد استمدَّ أبا بكر الصديق، فأمدّ أبو بكر خالداً بالقعقاع بن عمرو التميمي، فقيل له: أتمدّ رجلاً قد ارفضَّ عنه جنودُه برجلٍ واحدٍ؟ فقال: لا يُهزم جيش فيهم مثل هذا.} رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  3)
*
القعقاع بن عمرو من فرسان جيش الخليفة عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ:
مما جاء في التاريخ أنه في فتح المدائن على زمن الخليفة عمر ــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ   ــ: {سَلِمَ جميع المسلمين، غير أن رجلاً واحداً يُقال له غرقدة البارقي زلَّ عن فرس له شقراء فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها، وأخذ بيد الرجل حتى عدل على فرسه، وكان من الشجعان، فقال: عجزت النساء أنْ يلدن مثل القعقاع بن عمرو.} رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  4)
*
القعقاع بن عمرو من عمَّال الخليفة عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ:
قال جمهور المؤرِّخين ومتقدِّميهم أن القعقاع بن عمرو التميمي كان عامل الخليفة عثمان على حرب الكوفة. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  5)
*
القعقاع بن عمرو من فرسان جيش الخليفة علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ:
شهد القعقاع بن عمرو مع علي بن أبي طالب الجملَ وغيرها من حروبه، وأرسله عليّ ــ رضي الله عنه ــ إلى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فكلَّمهما بكلام حَسَنٍ تَقارب الناسُ به إلى الصُّلح. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  6)
أما عن ترجمة القعقاع بن عمرو فهو:
{
أخو عاصم بن عمرو. كان من الشجعان الفرسان، قيل: إن أبا بكر الصديق كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل، وله في قتال الفرس بالقادسية وغيرها بلاء عظيم.
ذكر ذلك سيف بن عمر في الفتوح، وقال سيف عن عمرو بن تمام عن أبيه عن القعقاع بن عمرو قال: قال لي رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ: "ما أعددتَ للجهاد؟".
قلتُ: طاعة الله ورسوله والخيل.
قال: "تلك الغاية".
وأنشد سيف للقعقاع: ولقد شهدتُ البرق برق تهامة يهدي المناقب راكباً لغبار
في جـند سـيف الله سـيف محمد والسـابقين لـسـنة الأحـرار
قال سيف: قالوا: كتب عمر إلى سعد أيّ فارس كان أفرس في القادسية؟ قال: فكتب إليه إني لم أرَ مثل القعقاع بن عمرو، حمل في يوم ثلاثين حملة، يقتل في كل حملة بطلاً. وقال ابن أبي حاتم: قعقاع بن عمرو قال: شهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه سيف ابن عمر عن عمرو ابن تمام عن أبيه عنه وسيف متروك، فبطل الحديث، وإنما ذكرناه للمعرفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  7). قلتُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  8): أخرجه ابن السكن من طريق إبراهيم بن سعد عن سيف بن عمر عن عمرو عن أبيه عن القعقاع بن عمرو قال: شهدتُ وفاة رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فلما صلينا الظهر جاء رجل حتى قام في المسجد، فأخبر بعضهم أن الأنصار قد أجمعوا أن يولوا سعداً يعني ابن عبادة ويتركوا عهد رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فاستوحش المهاجرون ذلك.
قال ابن السكن: سيف بن عمر ضعيف.
وقال ابن عساكر: يقال: إن له صحبة، كان أحد فرسان العرب وشعرائهم، شهد فتح دمشق وأكثر فتوح العراق، وله في ذلك أشعار موافقة مشهورة، وذكر سيف عن محمد وطلحة أنه كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان على كردوس في فتح اليرموك وهو القائل: يدفعون قعقاعاً لكل كريهة فيجيب قعقاع دعاء الهاتف.
في أبيات.
وقال غيره: استمد خالد أبا بكر لما حاصر الحيرةَ فأمدّه بالقعقاع بن عمرو وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وهو الذي غنم في فتح المدائن أدراع كسرى، وكان فيها درع لهرقل ودرع لخاقان ودرع للنعمان، وسيفه وسيف كسرى فأرسلها سعد إلى عمر، وذكر سيف بسند له عن عائشة أنه قطع مشفر الفيل الأعظم فكان هزمهم.} رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  9)
وقال خير الدين الزركلي: {القعقاع بن عمرو أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام. له صحبة. شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس. سكن الكوفة، وأدرك وقعة صفين فحضرها مع علي. كان شاعراً فحلاً. قال أبو بكر: صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل.} رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  10) خلاصة وخاتمة
ليس من صفات العقلاء الركون إلى أمر لم تثبت صحته، كما أنه ليس من الطبيعي القبول بأمر يناقض جميع المعطيات المتوفرة ويعارضها ما لم يدعَّم ذلك الأمر بالأدلة والبراهين الكافية.. فكيف يكون بالإمكان قبول ما طرحه العلامة العسكري والركون إليه؟!
لقد ثبت وصح عن القعقاع بن عمرو صدق إيمانه وإخلاصه لله، ولم يتوانَ عن نصرة الحق ما دام حياً، ولقد أخلص إلى الله ورسوله بإخلاصه إلى خلفاء الرسول الأربعة؛ ولم يدَّخر جهداً في النصح لصالح الحق والمسلمين، ونرى ذلك واضحاً في زمن الفتن كما كان في عهد الخليفة عثمان ــ رضوان الله تعالى عليه ــ حيث ثبت على نصرته والإخلاص له إلى آخر لحظة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  11)، وكذلك في الفتنة التي وقعت في زمن الخليفة علي ــ رضوان الله تعالى عليه ــ.
ولا يستطيع أحدٌ من الناس نسبة القعقاع بن عمرو إلى فريق دون الآخر سوى فريق الحق المتمثِّل بالخلفاء الراشدين الأربعة الذين أطبقت الأمة على صلاحهم وحسن إقتدائهم بسيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ.
فلماذا هذه الحملة إذاً؟
لم يكن القعقاع مع أبي بكر دون عمر، ولا مع عمر دون عثمان، ولا مع عثمان دون علي؛ فما هو جرمه؟
أيشنُّ مثل هذه الحملة على شخصٍ مثل القعقاع لأنه كان مخلصاً مع الخلفاء الثلاثة ويُنسى موقفه ــ الرائع الحق ــ مع الخليفة الرابع علي؟! ألم يخلص النصيحة له وللمسلمين؟ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  12) ألم يثبت مع عليّ في حروبه كلها؟!
أخيراً أقول: إنني أرى في سيرة القعقاع بن عمرو قدوة مثلى تحتذى!
أرجو أن أكون قد وُفِّقت فيما قدَّمتُ، وأصبتُ فيما رميتُ.
أُحيي كل صادق ومخلص.
كتبه
سام بن محمد علي
1/10/2004
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  1) عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، مرتضى العسكري، دراسات في سبيل تمحيص سنة الرسول رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  3)، دار نشر المجمع العلمي الإسلامي ـ طهران، بإشراف كلية أصول الدين، ج1، ص94.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  2) عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، مرتضى العسكري، ج1، ص249.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  3) تاريخ الأمم والملوك: تاريخ الطبري، الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، أحداث سنة اثنتي عشرة من الهجرة، مسير خالد بن الوليد إلى العراق وصلح الحيرة. [انظر طبعة روائع التراث العربي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، مج3، ص347] الكامل في التاريخ، الشيخ العلامة أبو الحسن عز الدين علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير، أحداث سنة اثنتي عشرة من الهجرة، مسير خالد بن الوليد إلى العراق وصلح الحيرة. [انظر طبعة دار صادر ـ بيروت، ط6، ص385]
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  4) البداية والنهاية، الإمام الحافظ أبو الفداء ابن كثير الدمشقي القرشي، أحداث سنة شت عشرة، فتح المدائن. [انظر: طبعة دار الفكر، ط3، تحقيق يوسف الشيخ محمد البقاعي بإشراف مكتب البحوث والدراسات، مج5، ص137] تاريخ الطبري، سنة 16، فتح المدائن. [مج4، ص12]
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  5) تاريخ الطبري، أسماء عمال عثمان ـ رض ـ. [مج4، ص422] الكامل في التاريخ، أسماء عمال عثمان ـ رض ـ. [مج3، ص186]
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  6) أسد الغابة في معرفة الصحابة، العلامة الشيخ أبو الحسن عز الدين علي بن محمد المعروف بابن الأثير، ترجمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  4309): القعقاع بن عمرو. [انظر طبعة دار إحياء التراث العربي، ط1، تصحيح الشيخ عادل أحمد الرفاعي، مج4، ص433] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  انظر تاريخ الطبري، مج4، ص484-488. والكامل في التاريخ، مج3، ص229ـ232)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  7) الترجمة أعلاه من تصنيف الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة، وقد أورد العلامة ابن الأثير رواية القعقاع أنه شهد وفاة النبي ـ ص ـ. [انظر: أسد الغابة، مج4، ص433]
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  8) القول للحافظ ابن حجر العسقلاني.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  9) الإصابة في تمييز الصحابة، الحافظ ابن حجر العسقلاني.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  10) الأعلام، خير الدين الزركلي، ترجمة القعقاع بن عمرو التميمي. [طبعة دار العلم للملايين، مج5، ص201-202]
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  11) لقد ثبتت نصرة القعقاع بن عمرو في مصادر التاريخ المعتمدة، ولكن تجدر الإشارة إلى ما أورده ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة، وهو قوله: "كتب عثمانُ إلى أهل الأمصار، يستنجدهم ويأمرهم بتعجيل الشخوص إليه للمنع عنه، ويعرِّفهم ما الناس فيه؛ فخرج أهل الأمصار على الصعب والذلول، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح معاوية بن خديج، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو، بعثه أبو موسى". [شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، شرح الخطبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  30) من خطب نهج البلاغة. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  انظر طبعة مؤسسة الأعلمي، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، مج1، ص223)]
 
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  12) انظر تاريخ الطبري، مج4، ص484. والكامل في التاريخ، مج3، ص229.
دراسة: سام محمد الحامد علي
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  وزارة الإعلام السورية، موافقة رقم: 79510)
جميع المواضيع المرسلة من قبل سام محمد الحامد علي محفوظة الحقوق لكاتبها، وهي مسجلة باسمه في الجهات المعنية والمختصة بالحماية الفكرية في سوريا، وتطبع دورياً في سلسلة مقالات تحت إشراف وموافقة وزارة الإعلام السورية، وتودع باسمه في المكتبات السورية المعتمدة تباعاً، كمكتبة الأسد. ثم إن الموقع يحتفظ بأرشيفه الخاص عن المقالات وتاريخ ورودها لحماية كل مَن يكتب فيه. أرسلت في 25-2-1426 هـ بواسطة samali





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق