الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

الْعُمر أقصر مُدَّة من أَن يضيع فِي الْحساب

الْعُمر أقصر مُدَّة من أَن يضيع فِي الْحساب
من حكايات أهل الأدب
وهي دعوة لتجاوز عثرات الحياة البيتية لإغلاق أبواب السعادة فيه
حَدث أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن أَحْمد اللَّيْثِيّ الْكَاتِب الْمَعْرُوف بِابْن كردويه ، قَالَ: كَانَ لي صديق من أهل راذان، عَظِيم النِّعْمَة والضيعة ، فَحَدثني، قَالَ : تزوجت فِي شَبَابِي امْرَأَة من آل وهب، ضخمة النِّعْمَة، حَسَنَة الْخلقَة وَالْأَدب، كَثِيرَة الْمُرُوءَة ، ذَات جوَار مغنيات ، فعشقتها عشقًا مبرحًا، وَتمكن لَهَا من قلبِي أَمر عَظِيم، وَمكث عيشي بهَا طيبا مُدَّة طَوِيلَة.
ثمَّ جرى بيني وَبَينهَا بعض مَا يجْرِي بَين النَّاس، فَغضِبت عَليّ، وهجرتني، وأغلقت بَاب حُجْرَتهَا من الدَّار دوني، ومنعتني الدُّخُول إِلَيْهَا ، وراسلتني بِأَن أطلقها.
فترضيتها بِكُل مَا يمكنني، فَلم ترض، ووسطت بَيْننَا أَهلهَا من النِّسَاء، فَلم ينجع.
فلحقني الكرب وَالْغَم، والقلق والجزع، حَتَّى كَاد يذهب بعقلي، وَهِي مُقِيمَة على حَالهَا.
فَجئْت إِلَى بَاب حُجْرَتهَا، وَجَلَست عِنْده مفترشًا التُّرَاب، وَوضعت خدي على العتبة، أبْكِي وأنتحب، وأتلافاها ، وأسألها الرِّضَا ، وَأَقُول كلما يجوز أَن يُقَال فِي مثل هَذَا ، وَهِي لَا تكلمني، وَلَا تفتح الْبَاب، وَلَا تراسلني.
ثمَّ جَاءَ اللَّيْل ، فتوسدت العتبة إِلَى أَن أَصبَحت ، وأقمت على ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها، وَهِي مُقِيمَة على الهجران.
فأيست مِنْهَا، وعذلت نَفسِي، ووبختها، ورضتها على الصَّبْر، وَقمت من بَاب حُجْرَتهَا، عَاملا على التشاغل عَنْهَا.
ومضيت إِلَى حمام دَاري، فأمطت عَن جَسَدِي الْوَسخ الَّذِي كَانَ لحقه، وَجَلَست لأغير ثِيَابِي وأتبخر.
فَإِذا بِزَوْجَتِي قد خرجت إِلَيّ، وجواريها الْمُغَنِّيَات حواليها، بآلاتهن يغنين، وَمَعَ بَعضهنَّ طبق فِيهِ أوساط، وسنبوسج، وَمَاء ورد، وَمَا أشبه ذَلِك.
فحين رَأَيْتهَا استطرت فَرحا، وَقمت إِلَيْهَا، وأكببت على يَديهَا ورجليها.
وَقلت: مَا هَذَا يَا ستي؟
فَقَالَت: تعال، حَتَّى نَأْكُل وَنَشْرَب، ودع السُّؤَال.
وَجَلَست وَقدم الطَّبَق، فأكلنا جَمِيعًا، ثمَّ جِيءَ بِالشرابِ، واندفع الْجَوَارِي بِالْغنَاءِ، وأخذنا فِي الشَّرَاب، وَقد كَاد عَقْلِي يَزُول سُرُورًا.
فَلَمَّا توسطنا أمرنَا، قلت لَهَا: يَا ستي، أَنْت هجرتيني بِغَيْر ذَنْب كَبِير أوجب مَا بلغته من الهجران، وترضيتك بِكُل مَا فِي الْمقدرَة، فَمَا رضيت، ثمَّ تفضلت ابْتِدَاء بِالرُّجُوعِ إِلَى وصالي بِمَا لم تبلغه آمالي، فعرفيني مَا سَبَب هَذَا؟
قَالَت: كَانَ الْأَمر فِي سَبَب الهجر ضَعِيفا كَمَا قلت: وَلَكِن تداخلني من التجني مَا يتداخل المحبوب، ثمَّ اسْتمرّ بِي اللجاج، وَأرَانِي الشَّيْطَان أَن الصَّوَاب فِيمَا فعلته، فأقمت على مَا رَأَيْت.
فَلَمَّا كَانَ السَّاعَة، أخذت دفترًا كَانَ بَين يَدي وتصفحته، فَوَقَعت عَيْني مِنْهُ على قَول الشَّاعِر:
الْعُمر أقصر مدّة ... من أَن يضيّع فِي الْحساب
فتغنّمي ساعاته ... فمرورها مرّ السَّحَاب
قَالَت: فَعلمت أَنَّهَا عظة لي، وَأَن سبيلي أَن لَا أَسخط الله عز وَجل بإسخاط زَوجي، وَأَن لَا أسْتَعْمل اللجاج، فأسوءك، وأسوء نَفسِي، فجئتك لأترضاك، وأرضيتك.
فانكببت على يَديهَا ورجليها، وَصفا مَا كَانَ بَيْننَا.
الفرج بعد الشدة للتنوخي (4/ 426)

راذان قرية من قرى السّواد - راذان الأسفل وراذان الأعلى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق