الجمعة، 16 أغسطس 2024

لمسات بيانية في نصوص من التنزيل – من سورة المائدة . وللموضوع تتمة بإذن الله تعالى سأل سائل عن قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَةٌ
إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

ولمسات بيانية في نصوص من التنزيل – من سورة المائدة . وللموضوع تتمة بإذن الله تعالى

سأل سائل عن قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .

لِمَ ختم الآية بقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} وكان المناسب لقوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} أن يقول: (فإنك أنت الغفور الرحيم) ؟ ولِمَ لم يقل سيدنا عيسى كما قال سيدنا إبراهيم، عليهما السلام: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] . إن الشِقَّ الأول من السؤال قديم: "قال أبو بكر بن الأنباري، وقد طعن على القرآن مَنْ قال: إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} لا يناسب قوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} لأن المناسب، فإنك أنت المغفور الرحيم". وأجاب عنه. وجاء في (الإتقان) : "من مشكلات الفواصل، قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فإن قوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} يقتضي أن تكون الفاصلة (الغفور الرحيم) .والذي نريد أن نقوله أولاً: إنه لا يَصحُّ اقتطاعُ جزء من آية أو جزء من السياق، وبناءُ الحكمِ عليه، بل الذي ينبغي هو أن يُنظرَ في السياقِ كله، ثم ينظر في ملاءمة الكلام بعضه لبعض. ولو نظر السائل أو المعترض في السياق لما أثار هذا السؤالَ أصلاً، فإنه لا يصح ختم الآية بالمغفرة

والرحمة ههنا، لأن السياق لا يمكن أن يقتضيهما، ولو فعل ذلك لكان نظير ما روي من أن: "بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ: والسارق والسارقة إلى آخرها، وختمها بقوله: (والله غفور رحيم) فقال: ما هذا كلام فصيح. فقيل له: ليس التلاوة كذلك، وإنما هي: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: بَخٍ بخ عَزَّ فحكمَ فقطعَ". هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إنه ليس كل موطن تُذكر فيه المغفرةُ أو الرحمة، ينبغي أن تُختمَ الآيةُ بهما، وإنما يعود ذلك إلى الموطن والسياق. ومن المعلوم أنه وردت في القرآن مواطن ذكرت فيها المغفرة والرحمة، ولم تختم الآيات بهما لأن الموطن لا يقتضي ذلك، بل يقتضي أمراً آخر يدل عليه السياق، وذلك نحو قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [الممتحنة: 5] فإنه لم يختم بالمغفرة مع أنه ورد طلب المغفرة، ذلك لأن مَدارَ الطلب في الآية هو أنْ لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، وهو مَحطُّ الاهتمام كما هو واضحٌ من السياق، وذلك يقتضي الختم بالعزة والحكمة، كما هو ظاهر فختم بهما. ونعود إلى سياق الآية التي هي مثار السؤال، فنقول: إن الآية وردت في سياق التبرؤ من قولٍ قالته طائفةٌ من النصارى ونسبته إلى عيسى عليه السلام، حكاه الله تعالى بقوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلاهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ . إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} . فنسب إلى عيسى أنه طلب من الناس أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله. وأظنُّ أن هذا المقام يمنع عيسى من طلب المغفرة، أو تَرجِّيها لهؤلاء الذين جعلوا الله دون منزلة عيسى وأمه. لقد ردّ علماؤنا الأوائل على مَنْ ظن أن المناسب ختم الآية بالمغفرة والرحمة بردودٍ عدة منها: 1- أنه لو ختم الآية بالمغفرة والرحمة لضعف المعنى، لأن هذا ينفرد بالشرط الثاني، ولا يكون له تَعلُّقٌ بالشرط الأول، في حين أن ختمه بالعزة والحكمة متعلق بالشرطين، فإن تعذيبه ومغفرته مَنُوطان بعزته وحكمته "فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان، لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلح (الغفور الرحيم) أن يحتمله ما احتمله العزيز الحكيم".

وجاء في (روح المعاني) : "وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه، فإنَّ مَنْ له الفعل والترك عزيز حكيم". ومعنى ذلك، أن اختيار العزيز الحكيم متعلقٌ بالثواب والعقاب جميعاً، وليس بحال واحدة.  جاء في (الكشاف) : "وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز، القوي، القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا يُثيبُ ولا يعاقب إلا عن حكمةٍ وصواب. فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار، فكيف قال: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} . قلت: ما قال إنك تغفرُ لهم، ولكنه بنى الكلام على إنْ غفرتَ لهم فقال: إنْ عذبتهم عدلتَ، لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرتَ لهم مع كفرهم، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة، لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في العقول، بل متى كان الجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق