الأربعاء، 12 مايو 2021

رجل من الزهّاد بين يدي المنصور هناك من طبيعته الظلم ، وآخر غفل فظلم

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَةٌ

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

رجل من الزهّاد  بين يدي المنصور

هناك من طبيعته الظلم ، وآخر غفل فظلم

بينما المنصور يطوف ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهمّ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحقّ وأهله من الطمع. فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه. فصلّى الرجل ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلّم عليه بالخلافة، فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحقّ وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني ( أوجعني ) . قال  : يا أمير المؤمنين، إن أمّنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزت منك واقتصرت على نفسي ففيها على نفسك فقل؛ فقال  : إنّ الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنت؛ قال: ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي؟ قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إنّ الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجصّ والآجرّ وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها عنهم، وبعثت عمّالك في جباية الأموال وجمعها وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكراع ، وأمرت بألّا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سمّيتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري ولا الضعيف الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حقّ، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيّتك وأمرت ألّا يحجبوا عنك، تجبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما بالنا لا نخونه وقد سجن لنا نفسه؟ فأتمروا بألّا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا قصبوه عندك ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس وهابوهم، فكان أوّل من صانعهم عمّالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيّتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلّم حيل بينه وبين دخول مدينتك، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم ألّا يرفع مظلمته إليك، فإنّ المتظلّم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفا منهم؛ فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتلّ عليه، فإذا أجهد وأحرج وظهرت، صرخ بين يديك، فضرب ضربا مبرّحا، ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصّين فقدمتها مرّة وقد أصيب ملكها بسمعه، فبكى يوما بكاء شديدا فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أمّا إني لست أبكي للبليّة النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ ولا أسمع صوته ثم قال: أمّا إذ ذهب سمعي فإنّ بصري لم يذهب نادوا في الناس ألّا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلّم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره، وينظر هل يرى مظلوما. فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين شحّ نفسه، وأنت مؤمن بالله ثم من أهل بيت نبيه لا تغلب رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرا في الطّفل يسقط من بطن أمه وماله على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطي بل الله يعطي من يشاء ما يشاء، وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وأعدّوا من الرجال والسلاح والكراع حتى أراد الله بكم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأشدّ من القتل؟ قال المنصور: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خوّلك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل؟ ولكن بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقد عليه قلبك وعملته جوارحك ونظر إليه بصرك واجترحته يداك ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب؟ فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخلق! ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسدّدوك، قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك ولكن افتح بابك وسهّل حجابك وانصر المظلوم واقمع الظالم وخذ الفيء والصدقات مما حلّ وطاب واقسمه بالحقّ والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة. وجاء المؤذنون فسلموا عليه فضلى وعاد إلى مجلسه وطلب الرجل فلم يجده .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

عيون الأخبار – ابن قتيبة الدينوري(2/ 360)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق