الأربعاء، 12 أغسطس 2015

الخليفة العباسي الظاهر بأمر الله غير الدنيا بأقل من سنة

تاريخ لم يبدأ ليموت
قد يفقده صفاء حينا
إلا أن الضياء شأنه وديدنه
لقد أصلح الدنيا عمر بن العزيز رحمه الله في سنتين
وأصلحها الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ العباسي في تسعة شهور
وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، وَتَلَقَّبَ بِالظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَنَى أَنَّ أَبَاهُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ أَرَادُوا صَرْفَ الْأَمْرِ عَنْهُ، فَظَهَرَ وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا بِسَعْيٍ مِنْ أَحَدٍ.
وكان أيام خلافته إظْهَارَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فأعاد للناس  سُنَّةَ الْعُمَرَيْنِ، فَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلَهُ لَكَانَ الْقَائِلُ صَادِقًا، فَإِنَّهُ أَعَادَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ فِي أَيَّامِ أَبِيهِ وَقَبْلَهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَطْلَقَ الْمُكُوسَ فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ الْخَرَاجِ الْقَدِيمِ فِي جَمِيعِ الْعِرَاقِ، وَأَنْ يَسْقُطَ جَمِيعُ مَا جَدَّدَهُ أَبُوهُ، وَكَانَ كَثِيرًا لَا يُحْصَى، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَرْيَةَ بَعْقُوبَا كَانَ يُحَصَّلُ مِنْهَا قَدِيمًا نَحْوَ عَشْرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمَّا تَوَلَّى النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ، كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلَّ سَنَةٍ ثَمَانُونَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَحَضَرَ أَهْلُهَا وَاسْتَغَاثُوا، وَذَكَرُوا أَنَّ أَمْلَاكَهُمْ أُخِذَتْ حَتَّى صَارَ يُحَصَّلُ مِنْهَا هَذَا الْمَبْلَغُ، فَأَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ الْخَرَاجُ الْقَدِيمُ وَهُوَ عَشْرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْمَبْلَغَ يَصِلُ إِلَى الْمَخْزَنِ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الْعِوَضُ؟ فَأَقَامَ لَهُمُ الْعِوَضَ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ الْمُطْلَقُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَمَا الظَّنُّ بِبَاقِي الْبِلَادِ؟ وَمِنْ أَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ الْأَوَّلِ مِنْ بَاقِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَحَضَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْأَمْلَاكَ الَّتِي كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهَا الْخَرَاجُ قَدِيمًا قَدْ يَبِسَ أَكْثَرُ أَشْجَارِهَا وَخُرِّبَتْ، وَمَتَى طُولِبُوا بِالْخَرَاجِ الْأَوَّلِ لَا يَفِي دَخْلُ الْبَاقِي بِالْخَرَاجِ، فَأَمَرَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ الْخَرَاجُ إِلَّا مِنْ كُلِّ شَجَرَةٍ سَلِيمَةٍ، وَأَمَّا الذَّاهِبُ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَخْزَنَ كَانَ لَهُ صَنْجَةُ الذَّهَبِ تَزِيدُ عَلَى صَنْجَةِ الْبَلَدِ نِصْفَ قِيرَاطٍ، يَقْبِضُونَ بِهَا الْمَالَ، وَيُعْطُونَ بِالصَّنْجَةِ الَّتِي لِلْبَلَدِ يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ فَخَرَجَ خَطُّهُ إِلَى الْوَزِيرِ، وَأَوَّلَهُ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1] . قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا، فَتُعَادُ صَنْجَةُ الْمَخْزَنِ إِلَى الصَّنْجَةِ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
فَكَتَبَ بَعْضُ النُّوَّابِ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا مَبْلَغٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ حَسَبْنَاهُ فَكَانَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يُنْكِرُ عَلَى الْقَائِلِ، وَيَقُولُ: لَوْ أَنَّهُ ثَلَاثُ مِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ يُطْلَقُ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا فَعَلَ رحمه الله فِي إِطْلَاقِ زِيَادَةِ الصَّنْجَةِ الَّتِي لِلدِّيوَانِ، وَهِيَ فِي كُلِّ دِينَارٍ حَبَّةٌ ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْقَاضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ كِتَابًا صَحِيحًا بِمِلْكٍ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، وَأَقَامَ رَجُلًا صَالِحًا فِي وِلَايَةِ الْحَشْرِيِّ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ الرَّجُلُ حَنْبَلِيًّا ، فَقَالَ: إِنَّنِي مِنْ مَذْهَبِي أَنْ أُوَرِّثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَإِنْ أَذِنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلِيتُ وَإِلَّا فَلَا. فَقَالَ لَهُ: أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَتَّقِ سِوَاهُ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْعَادَةَ كَانَتْ بِبَغْدَادَ أَنَّ الْحَارِسَ بِكُلِّ دَرْبٍ يُبَكِّرُ، وَيَكْتُبُ مُطَالَعَةً إِلَى الْخَلِيفَةِ بِمَا تَجَدَّدَ فِي دَرْبِهِ مِنَ اجْتِمَاعِ بَعْضِ الْأَصْدِقَاءِ بِبَعْضٍ عَلَى نُزْهَةٍ، أَوْ سَمَاعٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُكْتَبُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، فَكَانَ النَّاسُ مِنْ هَذَا فِي حَجْرٍ عَظِيمٍ، فَلَمَّا وَلِيَ هَذَا الْخَلِيفَةُ - جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا - أَتَتْهُ الْمُطَالَعَاتُ عَلَى الْعَادَةِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا، وَقَالَ: أَيُّ غَرَضٍ لَنَا فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي بُيُوتِهِمْ؟ فَلَا يَكْتُبُ أَحَدٌ إِلَيْنَا إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ دَوْلَتِنَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعَامَّةَ تَفْسُدُ بِذَلِكَ، وَيَعْظُمُ شَرُّهَا، فَقَالَ: نَحْنُ نَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَهُمْ.وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَصَلَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ مِنْ وَاسِطَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا أَيَّامَ النَّاصِرِ لِتَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ، فَأُصْعِدَ، وَمَعَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَتَبَ مُطَالَعَةً تَتَضَمَّنُ ذِكْرَ مَا مَعَهُ، وَيَسْتَخْرِجُ الْأَمْرَ فِي حَمْلِهِ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ بِأَنْ يُعَادَ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ، فَأُعِيدُ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ أَخْرَجَ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي السُّجُونِ، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقَاضِي عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ لِيُعْطِيَهَا عَنْ كُلِّ مَنْ هُوَ مَحْبُوسٌ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ.
وَمِنْ حُسْنِ نِيَّتِهِ لِلنَّاسِ أَنَّ الْأَسْعَارَ فِي الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ الْجَزِيرَةِ كَانَتْ غَالِيَةً، فَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَأَطْلَقَ حَمْلَ الْأَطْعِمَةِ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَبِيعَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ الْبَيْعَ لِلْغَلَّةِ، فَحُمِلَ مِنْهَا الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يُحْصَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ السِّعْرَ قَدْ غَلَا شَيْئًا، وَالْمَصْلَحَةُ الْمَنْعُ مِنْهُ، فَقَالَ: أُولَئِكَ مُسْلِمُونَ، وَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ، وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا النَّظَرُ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ، كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا النَّظَرُ لِأُولَئِكَ.
وَأَمَرَ أَنْ يُبَاعَ مِنَ الْأَهْرَاءِ الَّتِي لَهُ طَعَامٌ أَرْخَصُ مِمَّا يَبِيعُ غَيْرُهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ أَوَّلًا، وَكَانَ السِّعْرُ فِي الْمَوْصِلِ لَمَّا وَلِيَ، كُلُّ مَكُّوكٍ بِدِينَارٍ وَثَلَاثَةِ قَرَارِيطَ، فَصَارَ كُلُّ أَرْبَعَةِ مَكَاكِيكَ بِدِينَارٍ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، وَكَذَلِكَ بَاقِي الْأَشْيَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالدِّبْسِ، وَالْأَرُزِّ وَالسِّمْسِمِ وَغَيْرِهَا، فَاللَّهُ - تَعَالَى - يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيُبْقِيهِ، فَإِنَّهُ غَرِيبٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْفَاسِدِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ عَنْهُ كَلِمَةً أَعْجَبَتْنِي جِدًّا، وَهِيَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي الَّذِي يُخْرِجُهُ وَيُطْلِقُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَسْمَحُ نَفْسٌ بِبَعْضِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا فَتَحْتُ الدُّكَّانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَاتْرُكُونِي أَفْعَلُ الْخَيْرَ، فَكَمْ أَعِيشُ؟ وَتَصَدَّقَ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَفَرَّقَ فِي الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.
توفي سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ نِعْمَ الْخَلِيفَةِ، جَمَعَ الْخُشُوعَ مَعَ الْخُضُوعِ لِرَبِّهِ، وَالْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى رَعِيَّتِهِ، وَلَمْ يَزَلْ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَأَحْسَنَ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ، فَلَقَدْ جَدَّدَ مِنَ الْعَدْلِ مَا كَانَ دَارِسًا، وَأَذْكَرَ مِنَ الْإِحْسَانِ مَا كَانَ مَنْسِيًّا.
وقال سبط ابن الجوزي: لما دخل إلى الخزائن قال له خادم : كانت في أيام آباؤك تمتلئ
فقال: ما جعلت الخزائن لتمتلئ، بل تفرغ وتنفق في سبيل الله، فإن الجمع شغل التجار.
- الكامل في التاريخ – ابن الأثير الجزري (10/ 401)
- تاريخ الخلفاء- الإمام السيوطي (ص: 324)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق