صَبِيحَةٌ مُبارَكَة
إِخْوَتِي أَخَوَاتِي
في بلاد المسلمين
أزمير الخرزة الزرقاء وملتقى التاريخ - تركيا
من أهم المدن السياحية في تركيا وتسمى
"جوهرة بحر إيجه". تعد أكثر مدن البلاد سكانا بعد إسطنبول وأنقرة،
وميناؤها من أكثر موانئ تركيا نشاطا. وهي مدينة
التاريخ وملتقى الثقافات وإحدى نوادر المدن الشاهدة على صراع الحضارات والأزمنة،
كما أنها تؤرخ بين أقدم مدن عالم البحر المتوسط... إنها مدينة أزمير التركية، التي
تعتبر ثالث أهم مدينة بتركيا بعد العاصمة أنقرة والفاتنة إسطنبول، وهي الميناء
الأول للتصدير ولها نشاط تجاري وصناعي ملحوظ بالمنطقة ليس في العصر الحديث فقط، بل
منذ القرن السابع قبل الميلاد، والاسم اليوناني الشهير لها سميرنا، وقد اعتمد اسم
أزمير من قبل البرلمان التركي عام1930 .
بنيت المدينة على تل باكوس، ووفر الميناء الطبيعي ملاذًا
آمنًا للسفن، وساعدت العوامل الجيولوجية والسياسية على ازدهارها، ولم يتوفر ذلك
للموانئ القريبة منها لاسيما اليونانية. في عام 333 قبل الميلاد كانت المدينة على
موعد مع الفاتح المظفر الإسكندر، والتأثير الإغريقي واضح وما زال في أزمير، وفي
العام نفسه ضمت للإمبراطورية الرومانية. كان الرومان يسمون البحر الأبيض المتوسط
(بحرنا) لنفوذهم المطلق وتحويله إلى محمية رومانية.
اعتمدت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية وورثتها فيما بعد الإمبراطورية
البيزنطية، حيث ازدهرت الكنائس واحتفظت المدينة بهويتها المسيحية إلى أن دخلها
السلاجقة الأتراك عام 1076 ومن هنا انتشر الإسلام، لكن لم تنجُ المدينة من الحملات
الصليبية عام 1204 وبقيت المدينة ساحة كرّ وفرّ بين كلّ من الصليبين والأتراك
والمسلمين حتّى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، وفي عام 1389 ضُمّت المدينة إلى
الحكم العثماني بيد السلطان بايزيد الأول، وبقيت في ظل الحكم العثماني إلى أن
انتصر المغول عليهم في معركة أنقرة عام1402م، وسُلّمت للجنوبيين الذين كانوا
يستولون على أجزاء منها قبل سيطرة العثمانيين، وفي عام1415م قام السلطان محمد
الأوّل بالسيطرة عليها مجددًا وأعادها للحكم العثماني، وفي عام 1475 وشهدت المدينة
هجرات كثيرة من أعراق مختلفة منهم الأرمن واليهود كما كانت هناك جالية يونانية
هاجرت في أحداث ما بعد الحرب العالمية الأولى وتعرضت المدينة لحريق كبير.
خصوصية تاريخية
وأزمير لها خصوصيتها في التاريخ التركي الحديث أو ما بعد الإمبراطورية العثمانية،
فمن أزمير أطلقت باكورة عملية توحيد تركيا عام 1922 واستعادت بعض الأراضي المهمة
ومنها أزمير من الغريم اليوناني وهاجر معظمهم لكن يمكن ملاحظة التأثير الإغريقي في
بعض الزوايا المعمارية والمباني القديمة.
بوصلة رحلتي كانت إلى أزمير الخرزة الزرقاء وطريق أزمير هو التوجه إلى مطار
اسطنبول ومن ثم رحلة قصيرة لا تتعدى الساعة إلى مطار أزمير الأنيق، وما إن خرجت من
المطار حتى بدت ملامح مدن البحر الأبيض المتوسط بزرقة البحر وأشجار النخيل الباسقة
وقوارب الصيد الصغيرة بكورنيش بحري ممتد تحفّه مبانٍ ذات طابع معماري أوربي أنيق.
وأزمير هي ملتقى الحضارات، فقد مرت بها حضارة الإغريق التي عمرتها القلاع والمعابد
والمسارح الإغريقية المشابهة بأثينا ومازالت الآثار واضحة في مختلف الأماكن
الأثرية (أزمير مسقط رأس الشاعر الإغريقي هوميروس صاحب الإلياذة) وتعرضت للهدم
مرات عديدة نتيجة الزلازل، منها زلزال عنيف في أكتوبر 2020، لكنها بعد كل
زلزال كانت تعود بأبهى صورة. أزمير كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية من
عام1424، ويمكن ملاحظة التمازج اليوناني الأوربي والشرقي العثماني في كل زوايا
المدينة، وهذا ما لاحظته عند اتجاهي إلى ساحة كوناك، وهي الساحة الرئيسية بالمدينة
والتي تزينها أيقونة أزمير ألا وهي برج الساعة الفخم الذي تم تصميمه من قبل
المهندس المعماري الفرنسي ريموند تشارلز، وقد بني عام 1901 في الذكرى الخامسة
والعشرين من تتويج السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وتم إهداء الساعة المثبتة
أعلى البرج من قبل الإمبراطور الألماني ويليام الثاني، ويعتبر برج الساعة ملتقى
أهل المدينة والسياح على السواء.
سوق كيميرالتي
من خلف الساحة يقع سوق كيميرالتي الذي يتميز بمحلاته التجارية المُلونة وشوارعه
الضيقة ويسمى أيضًا بالتسمية التركية الكلاسيكية.
أنشئ هذا السوق في القرن السابع عشر، وهو يضم الكثير من الأزقّة والممرات
وأجد من المستحيل الدخول من ممر والخروج من الممر نفسه ومن متاجر وبضائع السوق من
الأقمشة والمجوهرات والعطور والجلود والتوابل والمطاعم والمقاهي التراثية ومطاعم
الإسكندر كباب الشطيرة الأشهر في تركيا بل في العالم وهي وجبة أساسية ابتكرها في
بورصة محمد اسكندر أفندي عام 1850 تقريبًا ثم انتشرت في كل تركيا، حملها المهاجرون
الأتراك معهم خصوصًا في ألمانيا وأصبحت من المأكولات العالمية بامتياز رغم تعدد
أسمائها لكن تظل تركيا موطنها الأصلي.
الآثار والتاريخ في كل مكان
بجانب سوق كيميرالتي يقع متحف أغووا المفتوح الذي يضم آثارًا إغريقية تركت على
حالها ليتسنى لنا الرجوع بالزمن أكثر من ثلاثة آلاف سنة لنشاهد هذه التحف
المعمارية. ليس هذا وحسب، هناك تل باكوس المرتفع الذي يحتوي على بقايا قلعة بنيت
بالقرن الثالث قبل الميلاد وتطل على مدينة أزمير ومينائها التجاري، والصعود بدرجات
القلعة الحجرية متعب، وهناك المصعد التاريخي الذي بني عام 1907 ليكون وسيلة نقل
مختصرة للصعود وحاليًا المصعد وجهة سياحية لمحبي التصوير لأخذ لقطة بانورامية
رائعة يظهر فيها بحر ايجه وميناء بسبور (ميناء صغير تنطلق فيه عبّارة بشكل دوري
ذهابًا وإيابًا للضفة الأخرى من خليج أزمير)، وبالضفة الأخرى تشاهد الزحام
والضواحي السكنية وبعض المقاهي والأماكن التي يقصدها أهل المدينة وليس السياح،
ومن السهولة العودة مرة أخرى، حيث إن العبّارة تنقل باستمرار، ومع
حلول المساء لابد من فنجان شاي تركي تقليدي حيث يمتاز بمذاقه القوي، وهو المشروب
المفضل للأتراك طبعًا بعد قهوتهم الشهيرة.
شيشمي قلعة التاريخ
لا يقتصر جمال وعبق التاريخ على أزمير وحدها بل يشمل ضواحيها والقرى الصغيرة التي
حولها وكان موعدنا صباحًا مع السائق رستم الذي نقلنا بعد خمسين دقيقة إلى المدينة
الساحلية شيشمي ومعنى اسمها ينسب إلى النوافير وعيون الماء التي تشتهر بها. مؤسس
المدينة بالقرن الحادي عشر هو القائد السلجوقي زاخاس وهو قائد عسكري بحري ويعتبر
أول أميرال (أمير البحار) تركي وكانت له صولات وجولات ومعارك بحرية شرسة مع الجيوش
البيزنطية، وقد أسر في إحدى المعارك لكن فك أسره عام 1081، كان يحكم كأمير مستقل
بالمنطقة وقتل بمكيدة من أحد أقربائه عام 1092.
قلعة المدينة
قصدنا قلعة المدينة التي تعتبر رمزها وتحيطها الأسوار، وهي بموقع البوابة الغربية
للأناضول ودارت الحروب تحت أبراجها، وتم تجديدها خلال عصر السلطان العثماني بايزيد
الثاني الذي حكم من (1481-1512). والقلعة كبيرة وتعج بالمدافع وتطل على البحر من
جهتين وبها مسجد ومئذنة ومتحف للمقتنيات والجرار والعملات ومطحنة للحبوب وبئر ماء
للتحمل أيام الحصار وموقع القلعة فريد يطل على المدينة بأكملها وقد رمقت من أحد
الأبراج بالقلعة سوق المدينة وحددت اتجاهه كأنني جندي عثماني أو سلجوقي فقصدت
السوق الرئيسي بالمدينة الذي نقلني إلى أجواء يونانية أوربية مع انتشار اللون
الأزرق الجميل بكل مكان في النوافذ والأبواب والتحف والسوق ممتد وبه الكثير من
المقاهي التي لا تخلو من لعبة الطاولة التي يعشقها الأتراك، رغم أنني أجهل كيفية
اللعب لكن كنت أستمتع بصوت أحجار النرد وهي تتدحرج وسط صيحاتهم الحماسية، وهذه
متعة السفر والاختلاط مع الشعوب.
الطريق إلى نزر كوي
هذه المرة كان السائق كمال الخبير بالقرى هو دليلنا للرحلة وبعد تناول الإفطار
الصباحي على البحر مصحوبًا بصياح النوارس توجهنا إلى قرية نزركوي لأعرف سر الخرزة
الزرقاء التي توجد بكل مكان والتي يعشقها الأتراك وتعتبر أيقونة أزمير وتدرج
بالقائمة الثقافية لمنظمة اليونسكو، وهي ثقافة أكثر منها معتقدًا ومورثًا شعبيًا،
وبعد أقل من ثلاثين دقيقة وصلت القرية موطن صناعة الخرزة الزرقاء وقد تلألأت
باللون الأزرق في كل زاوية، حيث تصطف متاجر بيع هذه الخرزة متعددة الأشكال
والأحجام، وبعد قسط من الراحة وشرب كوب من الليمون في أحد المقاهي التراثية توجهت
إلى مصنع لصناعة الخرزة الزرقاء وما إن دخلت حتى شعرت بحرارة الفرن الطيني الذي
تصل حرارته إلى 500 درجة، حيث يتم صهر الزجاج والأحجار لتكوين هذه التحفة الجميلة،
والصناع المهرة هم من أهل القرية يتوارثون سر هذه المهنة جيلًا بعد جيل.
قلعة القطن
تتنوع التضاريس والطبيعة كلما تنقلنا وقطعنا المسافات إلى مدينة باكولي وترجمتها
«قلعة القطن»، حيث تحتوي على مدينة إغريقية اسمها هيارأبوليس. وتحتوي المدينة
الأثرية على المسرح والملعب الرياضي والسوق القديم، وقد احتفظت الأحجار بلونها
المتميز رغم مرور آلاف السنين. عند التجول بين الأعمدة والمدرجات كنت أشعر كأني
سافرت عبر الزمن في متحف مفتوح، والمرشد السياحي للرحلة أضاف أنه مازالت الآلاف من
القطع الأثرية موجودة تحت التراب تنتظر من يستخرجها بعناية، وتمنيت أن تكوت هذه
المهمة من نصيب طلبة الآثار بالمنطقة، فعملية التنقيب تتطلب همة ونشاطًا ودراية،
خصوصًا أنه يتم التعامل مع قطع من التاريخ وليست أحجارًا عادية، والمكان ليس
أعجوبة أثرية فقط بل لمحبي الجيولوجيا نصيب من هذه الرحلة، حيث يوجد بالمنطقة
الكثير من الينابيع المعدنية الحارة وتحتوي على نسبة كبيرة من الكلس ينحدر من
الجبل، مشكلًا طبقة بيضاء كالثلج لذلك جاء اسم المنطقة «قلعة القطن». ويمكن التجول
فوق الجبل لكن يجب أخذ الحذر من السقوط في المنحدرات.
إيقاع الحياة
بعدما أمضيت أياما في التجول بين معالم أزمير وضواحيها والصعود للجبل وزيارة بعض
القرى يأتي دور التجول الحر وأخذ كاميرتي مزودة بعدسة واحدة تاركًا حقيبة المعدات
الإضافية وتجول، مطلقًا العنان للعدسة أن تصطاد «بورتريه» هنا وبابًا ذا لون جميل
هناك وأصور أي شيء مثير للاهتمام، وليس هدفي فقط التصوير بل التعرف أكثر على
ثقافة وتاريخ المدينة عبر الدردشة مع سواق التاكسي والصيادين وموظفي المطاعم، فهم أدرى
بشعاب المدينة، يساعد ذلك الجو اللطيف للمدينة وانتشار المقاهي بشكل كبير في
المدينة سواء على كورنيش البحر أو الأزقة والشوارع المعروفة، وليس هذا بغريب
على أزمير التي بها أكثر من خمسمائة مقهى و13 دار سينما وتطبع بها يوميًا 34 صحيفة
بمختلف اللغات خصوصًا العربية واليونانية والإنجليزية والفارسية مما يدل على
مكانتها الثقافية والاقتصادية قديمًا، كما أن ميناء أزمير قبل مئة عام كان يستقبل
عشرات السفن التجارية يوميًا قادمة من أمستردام ومرسيليا ومختلف موانئ العالم
العالمية إضافة إلى قوافل الإبل القادمة من الشرق الأوسط. كل هذه المعطيات تعطي
أزمير مكانة كبيرة لكن هناك أكثر من سبب يجعل المدينة منسية في خضم الزمن والتسابق
الحضاري المعماري، ومن أهم هذه الأسباب الزلازل التي تصيب أزمير وكذلك انتشار وباء
الطاعون عام 1742، لكن الحدث الأبرز الذي ما زالت آثاره واضحة هو الذي وقع بعد
الحرب العالمية الأولى من تفكك الإمبراطورية العثمانية حيث نشبت الحرب ودارت رحى
التدمير والحرائق في أزمير، وفي عام 1922 استعادت تركيا أزمير من اليونان وجرى
تهجير اليونانيين من المدينة والعكس تم تهجير الأتراك من مدينة سالونيك اليونانية،
وأدت الحرائق في المدينة إلى هجرة الكثير من سكانها ما أفقد المدينة الكثير من
هويتها العالمية، لكن مازالت أزمير مدينة بحرية جميلة تنتظر من يزورها.
لحظة الوداع
القراءة سفر وحلم واكتشاف وتوثيق وتصوير، والصورة تغني عن ألف كلمة كما يقولون.
ويكتمل الانطباع عن هذه المدينة الجميلة ببعض الملاحظات وبعض الاستنتاجات
والأفكار: أولًا: أزمير تختلف اختلافًا كليًا عن اسطنبول معماريًا وثقافيًا. كذلك
سكان أزمير لهم خصوصيتهم، فلديهم فسحة من الوقت أكثر من غيرهم ولايوجد ضغط العمل
كما في اسطنبول، وثانيًا: طابع المدينة أوربي متوسطي أكثر من أنه آسيوي شرقي،
ثالثًا: المدينة لها تاريخ كبير وكانت بمصاف المدن المهمة ولا تقل أهمية عن أثينا
واسطنبول، والدليل على ذلك الميناء الذي يستقبل السفن العالمية منذ مئات السنين،
لكن ظروف الزلازل والأوبئة والحروب لاسيما ما حدث من اقتتال وحرائق بعد
الحرب العالمية الأولى وهجرة اليونانيين والأرمن منها... كل ذلك أسهم في ابتعاد
المدينة عن خارطة المدن العالمية. لكن على الرغم من كل هذه الظروف والأحداث ما زلت
أزمير خرزة زرقاء جميلة وأيقونة رائعة فاتنة تدهش كل من يراها أو يزورها
يا رب عليك بمن تسبب في بلائنا
يا رب فرج عن الشام وأهل الشام
مجلة العربي العدد 770