السبت، 27 مايو 2023

من عجائب صور الاستقبال في التاريخ رسول ملك الروم إلى الخليفة المقتدر بالله العباسي لفداء الأسرى

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

من عجائب صور الاستقبال في التاريخ

رسول ملك الروم إلى الخليفة المقتدر بالله العباسي لفداء الأسرى

دامت الحرب بين العباسيين والروم عدة قرون وكانت ساحة المعارك بلاد الأناضول ، كل يود الإيقاع بخصمه ، وكان اهتمام العباسيين بالثغور فحصنوها ولها أمير يتفقد شؤونها ويدير أمر الحرب فيها . وكان الطرفين يترقبا الفرص للإيقاع بالخصم فكانت الأسرى نتاج تلك المعارك . ولقد بلغ النزاع أوجه في عهد هارون الرشيد ، بعد خلع الروم الملكة ايريني وأقروا نقفور مكا . وفي عهد المعتصم أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة ، فأسرهم وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصون من حصون المسلمين، إلى غير ذلك، وسبا من المسلمات- فيما قيل- أكثر من ألف امرأة، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم. فكان الرد بمعركة عمورية

كانت أسرى الروم في ازدياد وكذلك فقد وقع العديد من المسلمين في أيدي الروم . وتذكر كتب التاريخ أن اثنا عشر فداء جرى بين الروم والمسلمين منذ عهد هارون الرشيد . والفداء الذي نتحدث عنه كان القيم به مؤنس الخادم وبشرى الخادم الافشيني أمير الثغور الشامية وانطاكية، والمتوسط له والمعاون عليه أبو عمير عدي بن احمد بن عبد الباقي التميمي الأذني، رئيس الثغور الشامية ، وعدة من فودى به من المسلمين في ثمانية أيام ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة وثلاثون من ذكر وأنثى .

سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، وَصَلَ رَسُولَانِ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَطْلُبَانِ الْمُهَادَنَةَ وَالْفِدَاءَ، فَأُكْرِمَا إِكْرَامًا كَثِيرًا، وَأُدْخِلَا عَلَى الْوَزِيرِ وَهُوَ فِي أَكْمَلِ أُبَّهَةٍ، وَقَدْ صُفَّ الْأَجْنَادُ بِالسِّلَاحِ، (وَالزِّينَةِ التَّامَّةِ) ، وَأَدَّيَا الرِّسَالَةَ إِلَيْهِ، (ثُمَّ إِنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى الْمُقْتَدِرِ، وَقَدْ جَلَسَ لَهُمَا، وَاصْطَفَّ الْأَجْنَادُ بِالسِّلَاحِ وَالزِّينَةِ التَّامَّةِ، وَأَدَّيَا الرِّسَالَةَ) ، فَأَجَابَهُمَا الْمُقْتَدِرُ إِلَى مَا طَلَبَ مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْفِدَاءِ، وَسَيَّرَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ لِيُحْضِرَ الْفِدَاءَ، وَجَعَلَهُ أَمِيرًا عَلَى كُلِّ بَلَدٍ يَدْخُلُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى مَا يُرِيدُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ جَمْعًا مِنَ الْجُنُودِ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ أَرْزَاقًا وَاسِعَةً، وَأَنْفَذَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ لِفِدَاءِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَسَارَ مُؤْنِسٌ وَالرُّسُلُ، وَكَانَ الْفِدَاءُ عَلَى يَدِ مُؤْنِسٍ.

استبقي الوفد مدة شهرين ثم عرض على الخليفة ، وقد زُيِّنَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ بِزِينَةٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، كَانَ فِيهَا مِنَ السُّتُورِ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ سِتْرٍ، مِنْهَا عشرة آلاف وخمسمائة ستر مذهبة، وقد بسط فيها اثنان وعشرون ألف بساط لم ير مثلها، وفيها من الوحوش قطعان متآنسة بالناس، تأكل من أيديهم ومائة سبع من السَّبَّاعَةِ ، ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى دَارِ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بِرْكَةٍ فِيهَا مَاءٌ صَافٍ وَفِي وَسَطِ ذَلِكَ الْمَاءِ شَجَرَةٌ مَنْ ذَهَبَ وَفِضَّةٍ لَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ غُصْنًا أَكْثَرُهَا مِنْ ذَهَبٍ، وفي الأغصان الشماريخ والأوراق الملونة من الذهب والفضة والآلي واليواقيت، وَهِيَ تُصَوِّتُ بِأَنْوَاعِ الْأَصْوَاتِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسَلَّطِ عَلَيْهَا، وَالشَّجَرَةُ بِكَمَالِهَا تَتَمَايَلُ كَمَا تَتَمَايَلُ الْأَشْجَارُ بِحَرَكَاتٍ عَجِيبَةٍ تُدْهِشُ مَنْ يَرَاهَا، ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى مَكَانٍ يُسَمُّونَهُ الْفِرْدَوْسَ، فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ وَالْآلَاتِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَحُسْنًا. وَفِي دَهَالِيزِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ جَوْشَنٍ مُذَهَّبَةٍ. فَمَا زَالَ كُلَّمَا مرَّ عَلَى مَكَانٍ أَدْهَشَهُ وَأَخَذَ بِبَصَرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى المكان الذي فيه الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ آبِنُوسَ، قَدْ فُرِشَ بالدَّيْبَقِيِّ الْمُطَرَّزِ بِالذَّهَبِ، وعن يمين السرير سبعة عشر عنقود معلقة، وعن يساره مثلها وهي جوهر من أفخر الجواهر، كل جوهرة يعلو ضوؤها على ضوء النهار، ليس لواحدة منها قيمة ولا يستطاع ثمنها، فأوقف الرسول الذين مَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ عَلَى نَحْوٍ مَنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ، وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَالتُّرْجُمَانُ دُونَ الوزير، والوزير يخاطب الترجمان والترجمان يخاطبهما، فلما فرغ منهما خَلَعَ عَلَيْهِمَا وَأَطْلَقَ لَهُمَا خَمْسِينَ سَقْرَقًا فِي كُلِّ سَقْرَقٍ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأُخْرِجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَطِيفَ بِهِمَا فِي بَقِيَّةِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَعَلَى حَافَّاتِ دِجْلَةَ الْفِيَلَةُ وَالزَّرَافَاتُ وَالسِّبَاعُ والفهود وغير ذلك، ودجلة داخلة في دار الخلافة، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

وذكر ابن الجوزي واصفا مقابلة الوفد مع الخليفة . سنة خمس وثلاثمائة أنه قدم رسول ملك الروم في الفداء، والهدنة. وَكَانَ الرسول غلاما حدث السن ومعه شيخ وعشرون غلاما، فأقيمت له الأنزال الواسعة، ثم أحضروا بعد أيام دار السلطان، وأدخلوا وقد عبئ لهم العسكر وصف بالأسلحة التامة، وكانوا مائة وستين ألفا ما بين فارس وراجل ، وكانوا من أعلى باب الشماسية إلى الدار، وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم والخواص بالسمة الظاهرة  ، والمناطق المحلاة وكانوا سبعة آلاف خادم منهم أربعة آلاف بيض، وثلاثة آلاف سود، وَكَانَ الحجاب سبعمائة حاجب، وفي دجلة الطيارات والزبازب والسميريات بأفضل زينة، وسار الرسول، فمر على دار نصر القشوري الحاجب ، فرأى منظرًا عظيما، فظنه الخليفة، فداخلته له هيبة حتى قيل له: إنه الحاجب، وحمل إلى دار الوزير، فرأى أكثر مما رأى ولم يشك أنه الخليفة، فقيل له: هذا الوزير، وزينت دار الخليفة، فطيف بالرسول فيها . فشاهد ما هاله، وكانت الستور ثمانية وثلاثين ألف ستر، والديباج المذهب منها اثنا عشر ألفا وخمسمائة وكانت البسط اثنين وعشرين ألفا، وَكَانَ في الدار من الوحش قطعان تأنس بالناس وتأكل من أيديهم، وَكَانَ هناك مائة سبع كل سبع بيد سباع، ثم أخرج إلى دار الشجرة، وكانت شجرة في وسط بركة فيها ماء صاف، والشجرة ثمانية عشر غصنا، لكل غصن منها شاخات كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب ، وهي تتمايل، ولها ورق مختلف الألوان، وكل شيء من هذه الطيور يصفر، ثم أدخل إلى الفردوس، وَكَانَ فيه من الفرش والآلات ما لا يحصى، وفى دهاليزه عشرة آلاف جوشن مذهبة معلقة، ويطول شرح ما شاهد الرسول من العجائب، إلى أن وصل إلى المقتدر وهو جالس على سرير من آبنوس قد فرش بالدبيقي المطرز، وعن يمنة السرير تسعة عقود معلقة، وعن يسرته تسعة أخرى من أفخر الجواهر، يعلو ضوؤها على ضوء النهار، فلما وصل الرسولان إلى الخليفة وقفا عنده على نحو مائة ذراع، وعلي بْن مُحَمَّد بْن الفرات قائم بين يديه، والترجمان واقف يخاطب ابن الفرات، وابن الفرات يخاطب الخليفة، ثم أخرجا وطيف بهما في الدار حتى أخرجا إلى دجلة، وقد أقيمت على الشطوط الفيلة مزينة والزرافة والسباع والفهود، ثم خلع عليهما وحمل إليهما خمسون [سقروقا في كل سقروق] بدرة عشرة آلاف درهم.

يا رب فرج عن سوريا وأهل سوريا

ـــــــــــــــــ

تاريخ الطبري (9/ 55)

الكامل في التاريخ – ابن الأثير (6/ 653)

التنبيه والإشراف – المسعودي (1/ 165)

المنتظم في تاريخ الملوك والأمم – ابن الجوزي (13/ 174)

البداية والنهاية – ابن كثير (11/ 145)

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق