الثلاثاء، 5 أبريل 2022

 صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي
الكتاب في التاريخ العربي الإسلامي
وأنموذج ممن ألف وعشق الكتاب : الْقَاضِي الْفَاضِلُ
عرف المسلمون مبكرا المكتبات وصناعة الكتاب، وزينت المكتبات بيوتهم، وكان أهم ما يميز تلك المكتبات هو تنوع محتوياتها وغناها بمختلف مصادر المعرفة، فقامت نهضتهم منذ الصدر الأول على العلوم والمعارف والفلسفات، ولم ينحصروا في علوم الشريعة فحسب، بدليل ما احتوته خزائن كتبهم الخاصة والعامة من مؤلفات متنوعة، وترجمات دقيقة ومتنوعة لفلسفات ومعارف الحضارات القديمة . مكتبة الفاطميين 2.6 مليون كتاب وقال المقريزي : من الكتب النفيسة ما لا يعد؛ ويقال إنها كانت ألف ألف وستمائة ألف كتاب، منها مائة ألف مجلد بخط منسوب، وألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري وقال المؤرخون وفهرس عناوين خزانة الأمويين بقرطبة 900 صفحة ولك أن تتصور بعدها عدد الكتب
أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ الْقَاضِي الْأَشْرَفِ أَبِي الْمَجْدِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْبَيْسَانِيِّ الْمَوْلَى الْأَجَلُّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، كَانَ أَبُوهُ قَاضِيًا بِعَسْقَلَانَ، فَأَرْسَلَ وَلَدَهُ فِي الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَاشْتَغَلَ بِهَا بِكِتَابَةِ الْإِنْشَاءِ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ قَادُوسَ وَغَيْرِهِ، فَسَادَ أَهْلُ الْبِلَادِ حَتَّى بَغْدَادَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي زَمَانِهِ نَظِيرٌ، وَلَا عَدِيدٌ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا مُمَاثِلٌ وَلَا مُنَاظِرٌ وَلَا نَدِيدٌ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ جَعَلَهُ كَاتِبَهُ وَصَاحِبَهُ وَوَزِيرَهُ وَجَلِيسَهُ وَأَنِيسَهُ، وَكَانَ أَعَزَّ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيفِهِ وَتِلَادِهِ، وَتَسَاعَدَا حَتَّى فَتَحَ الْأَقَالِيمَ وَالْبُلْدَانَ وَالْحُصُونَ وَالْمَعَاقِلَ، هَذَا بِحُسَامِهِ وَسِنَانِهِ، وَهَذَا بِقَلَمِهِ وَلِسَانِهِ وَبَيَانِهِ، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِ وَوَجَاهَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ كَثِيرَ وَالصِّلَاتِ وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ، وَكَانَ يُوَاظِبُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى خَتْمَةٍ كَامِلَةٍ، مَعَ مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا مِنْ نَافِلَةٍ، رَحِيمَ الْقَلْبِ، حَسَنَ السِّيرَةِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ وَالسَّرِيرَةِ، لَهُ مَدْرَسَةٌ بِدِيَارِ مِصْرَ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَوْقَافٌ عَلَى تَخْلِيصِ الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِي النَّصَّارَى، وِقَدِ اقْتَنَى مِنَ الْكُتُبِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ كِتَابٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَفْرَحْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَلَا الْعُلَمَاءِ وَلَا الْمُلُوكِ وَلَا الْكُتَّابِ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ دَخَلَ الْعَادِلُ إِلَى قَصْرِ مِصْرَ بِمَدْرَسَتِهِ فَجْأَةً، يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ بِجِنَازَتِهِ، وَزَارَ قَبْرَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْمَلِكُ الْعَادِلُ، وَتَأْسَّفَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَوْزَرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ صَفِيَّ الدِّينِ بْنَ شُكْرٍ، فَلَمَّا سَمِعَ الْفَاضِلُ بِذَلِكَ دَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يُحَيِيَهُ إِلَى هَذِهِ الدَّوْلَةِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَسَةِ، فَمَاتَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُنِلْهُ أَحَدٌ بِضَيْمٍ وَلَا أَذًى، وَلَا رَأَى فِي الدَّوْلَةِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِأَشْعَارٍ حَسَنَةٍ، مِنْهَا قَوْلُ الْقَاضِي هِبَةِ اللَّهِ بْنِ سَنَاءِ الْمُلْكِ:
عَبْدُ الرَّحِيمِ عَلَى الْبَرِيَّةِ رَحْمَةٌ ... أَمِنَتْ بِصُحْبَتِهَا حُلُولَ عِقَابِهَا
يَا سَائِلًا عَنْهُ وَعَنْ أَسْبَابِهِ ... نَالَ السَّمَاءَ فَسَلْهُ عَنْ أَسْبَابِهَا
وَالدَّهْرُ يَعْلَمُ أَنَّ فَيْصَلَ خَطْبِهِ ... بِخُطَا يَرَاعَتِهِ وَفَصْلِ خِطَابِهِا
وَلَقَدْ عَلَتْ رُتَبُ الْأَجَلِّ عَلَى الْوَرَى ... بِسُمُوِّ مَنْصِبِهِا وَطِيبِ نِصَابِهَا
وَأَتَتْهُ خَاطِبَةً إِلَيْهِ وِزَارَةٌ ... وَلَطَالَمَا أَعْيَتْ عَلَى خُطَّابِهَا
مَا لَقَّبُوهُ بِهَا لِأَنْ يَعْلُو بِهَا ... أَسْمَاؤُهُ أَغْنَتْهُ عَنْ أَلْقَابِهَا
قَالَ الزَّمَانُ لِغَيْرِهِ إِذْ رَامَهَا ... تَرِبَتْ يَمِينُكَ لَسْتَ مِنْ أَتْرَابِهَا
اذْهَبْ طَرِيقَكَ لَسْتَ مِنْ أَرْبَابِهَا ... وَارْجِعْ وَرَاءَكَ لَسْتَ مِنْ أَصْحَابِهَا
وَبِعِزِّ سَيِّدِنَا وَسَيِّدِ غَيْرِنَا ... ذَلَّتْ مِنَ الْأَيَامِ شَمْسُ صِعَابِهَا
وَأَتَتْ سَعَادَتُهُ إِلَى أَبْوَابِهِ ... لَا كَالَّذِي يَسْعَى إِلَى أَبْوَابِهَا
تَعْنُو الْمُلُوكُ لِوَجْهِهِ بِوُجُوهِهَا ... لَا بَلْ تُسَاقُ لِبَابِهِ بِرِقَابِهَا
شُغِلَ الْمُلُوكُ بِمَا يَزُولُ وَنَفْسِهِ ... مَشْغُولَةٌ بِالذِّكْرِ فِي مِحْرَابِهَا
فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَوَاتِ أَتْعَبَ نَفْسَهُ ... وَضَمَانُ رَاحَتِهِ عَلَى إِتْعَابِهَا
وَتَعَجَّلَ الْإِقْلَاعَ عَنِ لَذَّاتِهِ ... ثِقَةً بِحُسْنِ مَآلِهَا وَمَآبِهَا
فَلْتَفْخَرِ الدُّنْيَا بِسَائِسِ مُلْكِهَا ... مِنْهُ وَدَارِسِ عِلْمِهَا وَكِتَابِهَا
صَوَّامِهَا قَوَّامِهَا عَلَّامِهَا ... عَمَّالِهَا بَذَّالِهَا وَهَّابِهَا
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ مَعَ بَرَاعَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ الَّتِي لَا تُدَانَى وَلَا تُجَارَى لَا يُعْرَفُ لَهُ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ طَنَّانَةٌ، بَلْ لَهُ مَا بَيْنَ بَيْتٍ وَبَيْتَيْنِ فِي أَثْنَاءِ الرَّسَائِلِ وَغَيْرِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
سَبَقْتُمْ بِإِسْدَاءِ الْجَمِيلِ تَكَرُّمًا ... وَمَا مِثْلُكُمْ فِيمَنْ تَحَدَّثَ أَوْ حَكَى
وَقَدْ كَانَ ظَنِّي أَنْ أُسَابِقَكُمْ بِهِ ... وَلَكِنْ بَكَتْ قَبْلِي فَهِيجَ لِيَ الْبُكَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
أَرَى الْكُتَّابَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا ... بِأَرْزَاقٍ تَعُمُّهُمْ سِنِينَا
وَمَا لِيَ بَيْنَهُمْ رِزْقٌ كَأَنِّي ... خُلِقْتُ مِنَ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَا
ــــــــــــــــــــ
البداية والنهاية – ابن كثير (16/ 698)
اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء - المقريزي(3/ 331)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق