الثلاثاء، 9 يوليو 2024

السفارة عند العرب في الجاهلية

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

السفارة عند العرب في الجاهلية

السفير في اللغة هو المصلح بين القوم. قال موسى بن جابر الحنفي:

وما أدعُ السِّفارة بينَ قومي ... وما أمشي بغشٍ إنْ مَشَيْتُ

تتطلب السفارة الدراية والحنكة والحكمة، لجل المطلب وخطورة النتائج . ومن الصفات التي يجدر أن يتمتع بها السفير أن يكون حليماً حكيماً، داهياً، صحيح الفطرة، بصيراً بمخارج الكلام وأجوبته .

قال عمر بن أبي ربيعة :

فبعثنا طبّةً عالمةً ... تخلط الجدّ مراراً باللعب

ترفع الصّوت إذا لانت لها ... وتراخي عند سورات الغضب

وعمر هنا يصف سفيرة هوى، فما هو الحال إن كان الحديث عن سفير قوم، وهو يرعى مصالح قومه، أو يدفع شر خصمه، أو يقف بين يدي ملك جبار، تتنازعه الرغبة والرهبة، فإنه هنا لا بد أن يجمع الفطانة والفصاحة، ليتخير الكلام، ويستعذب الألفاظ ، حتى يطفئ جمرة الغيظ، ويسل دفائن الحقد.

والسفير عند العرب هو المقدم في عشيرته، وعميدها الذي من قوته تنزع، أو حكيمها الذي عن رأيه تصدر، أو شاعرها الذي عن لسانها يعرب . لقد أكرمت العرب السفراء , وأحسنت معاملتهم، ووفرت لهم الحماية والأمن، ففي يوم ذي قار قدم النعمان بن زرعة التغلبي رسولاً من كسرى، يخيرهم خلالاً ثلاثاً: أن يسلموا حلقة النعمان، أو يرتدوا إلى الصحراء، أو يأذنوا بحرب ، وكان لهم في الأولى الدنية، وفي الثانية المنية عطشاً، فلم يكن من هانئ بن قبيصة سيد بكر إلا أن قال له: لولا أنك رسول ما أبت إلى قومك سالماً . وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ نُعَيْمٍ، قَالَ: سمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حِينَ قَرَأَ كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، قَالَ لِلرَّسُولَيْنِ: فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَقُولُ: كَمَا قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا»

وممن مهما السفراء الفداء وفك الأسراء وكان المال وسيلة لافتداء الأسرى، وقد وفد لقيط بن زرارة التميمي على بني عامر في فداء أخيه معبد، فأغلوا فداءه، فتركه في قيد الأسر ورجع إلى قومه، فقال شريح بن الأحوص العامري أبياتاً في لقيط، منها: وقد وفد لقيط بن زرارة التميمي على بني عامر في فداء أخيه معبد، فأغلوا فداءه، فتركه في قيد الأسر ورجع إلى قومه، فقال شريح بن الأحوص العامري أبياتاً في لقيط، منها:

                          لقيط وأنت امرؤ ماجد.........        ولكن حلمك لا يهتدي

                         رفعت برجليك فوق الفرا......    ش تهدي القصائد في معبد

                              وأسلمته عند جد القتال.....     وتبخل بالمال أن تقتدي

وكانت الفصاحة من أساليب العرب في حل الخلاف ودخل متمّم بن نويرة على عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقال له عمر: ما أرى فى أصحابك مثلك! قال: يا أمير المؤمنين، أما والله إنّي مع ذلك لأركب الجمل الثّفال ، وأعتقل الرّمح الشّطون ، وألبس الشّملة الفلوت ، ولقد أسرتني بنو تغلب فى الجاهليّة. فبلغ ذلك أخي مالكا، فجاء ليفديني . فلمّا رآه القوم أعجبهم جماله، وحدّثهم فأعجبهم حديثه، فأطلقونى له بغير فداء.

وكان حب العربي للمديح وخوفه من الهجاء سبيلا من سبل السفراء في الوصول للهدف وكان علقمة بن عبدة التميمي الشاعر سفيرا على الحارث الأعرج الغساني في أخيه شأس وتسعين أسيراً من تميم، وقعوا في الأسر يوم حليمة، فأنشد الحارث بائيته السائرة:

                  طحا بك قلب في الحسان طروب............. بُعيد الشباب عصر حان مشيب

                 وفي كل حي قد خبطت بنعمة ...........        .فحق لشأس من نداك ذنوب

                 فلا تحرمني نائلاً عن جنابة ............      ..فإن امرؤ وسط القباب غريب

فأطلق له الحارث شأساً وأسرى تميم، وكساهم، وحباهم، وزودهم زاداً كثيراً .

السعي في السلم:

ولقد كره العرب لجاج الحروب، وسعى السفراء من حلماء القبائل وحكمائهم لإطفاء نار الفتن، ودفع الشر، وتلافي القرحة وإقرار الأمن، وارتفعت أصوات العقلاء تدفع الحرب المبيرة عن الأهل والعشيرة، ورأوا أن الظلم مطية الشر وسبيل التهلكة، فتنادوا إلى رفع الظلم، وإقرار الحق: قَالَ جَوَّاسُ بنُ الْقَعْطَلِ

          يا قومنا لا تظلمونا حقنا............ والظلم أنكد غبُّه مشؤوم

          فإن جناة الحرب للحين عرضة............ تفوقهم منها الذعاف المقشما

          حذار فلا تستنبئوها فإنها............ تغادر ذا الأنف الأشم مكشما

دريد بن الصمة ومالك بن عوف يحذرانهما عاقبة الحرب

فقام مالك بن عوف  فقال: يا معشر بني سليم، إنكم نزلتم منزلا بعدت فيه هوازن، وشبعت منكم فيه بنو تميم، وصالت عليكم فيه بكر بن وائل، ونالت فيه منكم بنو كنانة، فانزعوا وفيكم بقية قبل أن تلقوا عدوّكم بقرن أعضب وكفّ جذماء، قال: فلما أمسينا تغنى دريد بن الصّمّة فقال:

سليم بن منصور ألمّا تخبّروا ... بما كان من حربي كليب وداحس

وما كان في حرب اليحابر من دم ... مباح وجدع مؤلم للمعاطس

وما كان في حربي سليم وقبلهم ... بحرب بعاث من هلاك الفوارس

تسافهت الأحلام فيها جهالة ... وأضرم فيها كلّ رطب ويابس

فكفّوا خفافا عن سفاهة رأيه ... وصاحبه العبّاس قبل الدّهارس

وللسفراء أخاديع ومكائدهم ما روي عن زيد مناة وبكر بن وائل، وقد وفدا على بعض الملوك، وخاف زيد مناة أن يحظى بكر من الملوك بفائدة، يقل معها حظه، فقال له يا بكر : لا تلق الملك بثياب سفرك، ولكن تأهب للقائه، وادخل عليه في أحسن زينة ، ففعل بكر ذلك ، وسبقه زيد مناة إلى الملك، فسأله عن بكر، فقال: ذلك مشغول بمغازلة النساء والتصدي لهن، وقد حدث نفسه بالتعرض لبنت الملك، فغاظه ذلك، وأمسك عنه، ونمي الخبر إلى بكر، فدخل إلى الملك، فأخبره بما دار بينه وبين زيد مناة، وصدقه عنه، واعتذر إليه.

 فلما اجتمعا عند الملك من يوم غد، قال الملك لزيد مناة: ما تحب أن أفعل بك؟ قال: لا تفعل ببكر شيئاً إلا فعلت بي مثله، وكان بكر عور العين اليمنى قد أصابها ماء فذهب بها، فكان لا يعلم من رآه أنه أعور، فسأل الملك بكراً: ما تحب أن أفعل بك؟ قال: تفقأ عيني اليمنى، وتضعف لزيد مناة. فأمر بعينه العوراء ففقئت، وأمر بعيني زيد مناة ففقئتا، فخرج بكر أعور بحاله، وخرج زيد مناة وهو أعمى.

يا رب عليك بمن تسبب في بلائنا

يا رب فرج عن الشام وأهل الشام

ــــــــــــــ

مسند الإمام أحمد (25/ 366)

الشعر والشعراء  - ابن قيبة(1/ 325)

العمدة في محاسن الشعر وآدابه (1/ 57)

الممتع في صنعة الشعر - الأزدي(ص: 313)

الأغاني (21/ 132)

العقد الفريد (6/ 111)

أخبار النساء لابن الجوزي (ص: 199)

الزاهر في معاني كلمات الناس (1/ 78)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق