الثلاثاء، 12 ديسمبر 2023

الْقَاضِي وأديب داهية وصورة صادقة من تاريخ سلفنا

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

الْقَاضِي وأديب داهية

وصورة صادقة من تاريخ سلفنا

بتهافت الناس اليوم على تولي القضاء ولربما طمعا في المنزلة التي يتمتع بها القاضي كوجه اجتماعي في حين كان السلف يتمنون خوفا وخشية من موقف لابد قادم يوم القيامة . فلقد امتنع أبي حنيفة عن تولي القضاء فقام ابن هبيرة بضرب أبا حنيفة نحواً من مائة سوط مفرقةً على أن يلي قضاء الكوفة فأبى؛ فخلف ابن هبيرة ألا يتركه حتى يلي، فكلمه رجال أهل الكوفة؛ فلم يزالوا به حتى قَالَ: أَبُوْ حَنِيْفَةَ: أنا ألى له عدد ما يدخل الكوفة من أحمال التين والعنب؛ ففعل وخلي عنه.

ومن القضاة اللذين لبسوا ثوب القضاء عن دين وفكر جللته الهيبة الْقَاضِي أبي الْعَبَّاس بن ذكْوَان ، وكان قَاضِيا بقرطبة ، وَتسَمى بقاضي الْقُضَاة. قَالَ ابْن عفيف: وَكَانَ من خير الْقَضَاء نزاهة، وعلماً وَمَعْرِفَة، ورزانة، وعدلاً، وحزامة. وَقَالَ غَيره: كَانَ القَاضِي أَحْمد بن عبد الله فِي ولَايَته موقر الْمجْلس، مهيب الحضرة؛ مَا رَأَيْت مجْلِس قَاض قطّ أوقر من مَجْلِسه. وَكَانَ إِذا قعد للْحكم فِي الْمجْلس، وَهُوَ غاص بأَهْله، لم يتَكَلَّم أحد مِنْهُم بِكَلِمَة، وَلم ينْطق بِلَفْظَة غَيره وَغير الْخَصْمَيْنِ بَين يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَلَام النَّاس بَينهم إِيمَاء ورمزاً، إِلَى أَن يقوم القَاضِي؛ فَصَارَ حَدِيثه فِي ذَلِك عجبا. وَلَقَد أَتَتْهُ، فِي بعض مجالسه، من الأديب أبي بَحر أنس بن أَحْمد الجياني، داهية لم يبلغهُ بِمِثْلِهَا أحد، لفرط هيبته؛ وَذَلِكَ أَنه كلم بَين يَدَيْهِ خصما لَهُ، كلَاما استطال فِيهِ عَلَيْهِ، بِفضل أدبه، وطلاقة لِسَانه؛ وَفَارق عَادَة الْمجْلس فِي التوقير، فَرفع صَوته، وَعز عطفه وحسر عَن ساعديه، وَأَشَارَ بيدَيْهِ، مَادًّا لَهما إِلَى وَجه خَصمه، واعياً على الأعوان تَقْدِيمه. فتاوله القَاضِي بِنَفسِهِ، وَأنكر عَلَيْهِ إكثاره، وَقَالَ: مهلا {عافاك الله} اخْفِضْ صَوْتك واقبض يدك {فَقَالَ لَهُ أنس: ومهلاً يَا قَاضِي} أَمن المحذرات أَنا؟ فأخفض صوتي، وأستر يَدي، وأغطي معصمي لديك {أم من الْأَنْبِيَاء أَنْت؟ فَلَا أَجْهَر بالْقَوْل عنْدك} وَذَلِكَ شَيْء لم يَجعله الله تَعَالَى إِلَّا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لقَوْله تَعَالَى: " يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون. " وَلست بِهِ وَلَا كَرَامَة} وَقد ذكر الله تَعَالَى أَن النُّفُوس تجَادل عِنْده يَوْم الْقِيَامَة فِي الْموقف الَّذِي لَا تعدله مقامات الدُّنْيَا فِي الْجَلالَة والهيبة. قَالَ الله تَعَالَى " يَوْم تَأتي نفس تجَادل عَن نَفسهَا وَتوفى كل نفس مَا عملت وهم لَا يظْلمُونَ {" لقد تعديت، يَا قَاضِي} طورك {وعلوت فِي منزلتك} وَإِنَّمَا الْبَيَان، بِعِبَارَة اللِّسَان، وبالمنطق، يستبين الْبَاطِل من الْحق؛ وَإِنَّمَا البوس، مَعَ النحوس، وَلَا بُد فِي الْخِصَام، من إفساح كَلَام {قَالَ: فبهت القَاضِي بقوله، وأغضى على تقريعه، وَجعل يَقُول: الرِّفْق أولى من الْخرق} وَانْصَرف أنس، وَالنَّاس يعْجبُونَ من صبره لَهُ.

يا رب عليك بمن تسبب في بلائنا

يا رب فرجك عن الشام وأهل الشام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (1/ 568)

تاريخ قضاة الأندلس - أبو الحسن علي بن عبد الله النباهي المالقي الأندلسي (ص: 84)

معجم الأدباء (1/ 473)

أخبار القضاة - وكيع(1/ 26)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق