السبت، 10 ديسمبر 2022

الحائل من روائع الأدب بين عمرو بن مسعدة وزير الخليفة المعتصم وفضولي عربي

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

الحائل

من روائع الأدب بين عمرو بن مسعدة وزير الخليفة المعتصم وفضولي عربي

قيل أن عمرو بن مسعدة وزير المعتصم قال: لما خرج المعتصم من بلاد الروم وصار بناحية الرّقّة ، قال لي: ويلك يا عمرو! لم تزل تخدعني حتّى ولّيت عمر بن الفرج الرّخّجي  الأهواز وقد قعد في سرّة الدنيا يأكلها خضما وقضما! فقلت: يا أمير المؤمنين فأنا أبعث إليه حتّى يؤخذ بالأموال ولو على أجنحة الطّير- قال: كلّا بل تخرج إليه بنفسك كما أشرت به- فقلت لنفسي: إن هذه منزلة خسيسة، بعد الوزارة أكون مستحثّا لعامل خراج! ولم أجد بدّا من الخروج رضا لأمير المؤمنين- فقلت: ها أبا خارج إليه بنفسي يا أمير المؤمنين! قال: فضع يدك على رأسك واحلف أنك لا تقيم ببغداد، ففعلت وأحدثت عهدا بإخواني ومنزلي وأتي إليّ بزورق ففرش لي فيه، ومضيت حتّى إذا صرت بين دير هزقل ودير العاقول  إذا شابّ على الشط يقول: يا ملّاح! رجل غريب يريد دير العاقول فاحملني يأجرك الله! - فقلت: يا غلام قرّب له- فقال: جعلت فداك! يؤذيك ويضيّق عليك- فقلت: قرّب له لا أمّ لك! فقرّب له وحمله على مؤخّر الزورق. وحضر الطعام، فهممت أن لا أدعوه إلى طعامي، ثم قلت: هلمّ يا فتى، فوثب وجلس، فأكل أكل جائع نهم إلا أنه نظيف الأكل؛ فلما فرغ من الطعام أحببت أن يفعل ما يفعل العوّام فيتنحّى ويغسل يديه ناحية فلم يفعل، فغمزه الغلمان ليقوم فلم يفعل، فتناومت عمدا لينهض فلم يفعل، فاستويت جالسا وقلت يا فتى! ما صناعتك؟ فقال جعلت فداك! أنا حائك. فقلت في نفسي: أنا والله جلبت هذه البلية، وتغير لوني، ففطن أني استثقلته، فقال: جعلت فداك! انك قد سألتني عن صناعتي فأجبتك، فأنت ما صناعتك؟ فقلت: هذه والله أضرّ من الأولى ألا ينظر إلى غلماني ونعمتي فيعلم أن مثل هذا لا يسأل عن الحرفة؟ ولم أجد بدّا من الجواب، فلم أذهب إلى المرتبة العظمى من الوزارة لكني قرّبت عليه، فقلت: أنا كاتب- فقال: جعلت فداك! الكتّاب خمسة فأيهم أنت؟ فأورد عليّ ما لم أسمع به قبل- فقلت: بيّنهم لي- قال نعم، هم كاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف المفصول والموصول، والمقصور والممدود، والابتداء والجواب؛ حاذقا بالعقود والفتوح- قلت: أجل وماذا؟ قال: كاتب خراج يحتاج أن يعرف السّطوح والمساحة والتّقسيط، خبيرا بالحساب والمقاسمات. قلت: وماذا؟ قال: كاتب قاض يحتاج أن يعرف الحلال والحرام، والتأويل والتنزيل، والمتشابه والحدود القائمة والفرائض، والاختلاف في الأموال والفروج، حافظا للأحكام، حاذقا بالشروط- قلت: وماذا؟ قال: وكاتب جند يحتاج أن يعرف الحلى والشّيات قلت: وماذا؟ قال: وكاتب شرطة يحتاج أن يعرف القصاص والجراحات، وموضع الحدود، ومواقع العفو في الجنايات- قلت حسن. قال: فأيّهم أنت؟ فكنت متّكئا فاستويت جالسا متعجّبا من قوله، فقلت: أنا كاتب رسائل- قال: فإن أخا من إخوانك واجب الحقّ عليك معتنيا بأمورك لا يغفل منها عن صغير ولا كبير يكاتبك في كل محبوب ومكروه وأنت له على مثل ذلك تزوّجت أمّه كيف تكتب إليه؟ أتهنيه أم تعزيه؟ - قلت أهنيه. قال فهنّه فلم يتّجه لي شيء- فقلت: لا أعزّيه ولا أهنّيه، فقال: إنك لا تغفل له عن شيء ولا تجد بدّا من أن تكتب إليه- فقلت: أقلني فأنا كاتب خراج- قال: فإنّ أمير المؤمنين وجّه بك إلى ناحية من عمله، وأمرك بالعدل والإنصاف، وأنك لا تدع شيئا من حقّ السلطان يذهب ضياعا، وحذّرك الظّلم والجور، فخرجت حتّى قدمت الناحية فوقفوك على قراح أرض خطه قابل قسيا كيف تمسحه- قلت: آخذ وسطه وآخذ طوله فأضربه فيه- قال: تختلف عليك العطوف- قلت: آخذ طوله وعرضه من ثلاثة مواضع- قال: إن طرفيه محدودان وفي تحديده تقويس وذلك يختلف- فأعياني ذلك- فقلت: أقلني فأنا كاتب قاض- قال: فإنّ رجلا هلك وخلّف زوجة حرّة وسرّيّة حاملتين فوضعتا في ليلة واحدة وضعت الحرّة جارية، ووضعت السّرّيّة غلاما، فوضعت الجارية في مهد السّرّيّة، فلما أصبحت السّرّية قالت الغلام لي، وقالت الحرّة بل هو لي كيف تحكم بينهما؟ - قلت: لا أدري فأقلني، فأنا كاتب جند، قال: فإن رجلين من أصحاب السلطان أتياك اسمهما واحد، وأحدهما مشقوق الشّفة العليا، والآخر مشقوق الشّفة السّفلى، ورزق أحدهما مائة والآخر ألف كيف تحلّيهما؟ - قلت: فلان الأعلم وفلان الأعلم، قال: إذن يجيء هذا ورزقه مائة فيأخذ الألف، ويجيء هذا ورزقه ألف فيأخذ المائة- قلت أقلني: فأنا كاتب شرطة،- قال: فإن رجلين تواثبا فشجّ أحدهما صاحبه موضحة ، وشجّه الآخر مأمومة «2» كيف يكون الحكم فيهما؟ - قلت: لا أدري فأقلني،. قال فقلت: إنك قد سألتني فبيّن لي- قال نعم. أما الذي تزوّجت أمّه فتكتب إليه: أما بعد فإن الأمور تجري على غير محابّ المخلوقين والله يختار لعباده، فخار الله لك في قبضها إليه فإن القبور أكرم الأكفاء والسلام. وأما القراح من الأرض، فإنك تمسح اعوجاجه حتّى تعلم كم قبضة تكون فيه فإذا استوى في يدك عقد تعرفه ضربت طرفه في وسطه. وأما الحرّة والسّرّية فيوزن لبنهما فأيّهما كان لبنها أخفّ فالبنت لها. وأما المشقوق الشّفة العليا فأعلم والمشقوق الشّفة السّفلى فأفلح. وأما المأمومة ففيها ثلث الدية وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث. وأما الموضحة ففيها خمس من الإبل؟. فقلت: ألست تزعم أنك حائك، فقال: أنا حائك كلام لا حائك نساجة. قال عمرو بن مسعدة: فأحسنت جائزته واستصحبته معي حتّى عدت إلى المعتصم، فسألني عمّا لقيت في طريقي، فقصصت عليه القصّة فأعجب به وقال: لم يصلح؟ فقلت: للعمائر  فقرّره فيها وعلت رتبته، فكنت ألقاه في الموكب النبيل فيترجّل لي فأنهاه، فيقول: هذه نعمتك وأنت أفدتها.

فقد تبين بهذه الحكاية أن لكل نوع من الكتابة مادّة يحتاج إليها بمفردها، وآلة تخصها لا يستغنى عنها.

العقد الفريد (4/ 260)

شرح مقامات الحريري (2/ 144)

صبح الأعشى في صناعة الإنشاء – القلقشندي (1/ 177)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق