الاثنين، 27 يوليو 2015

الطبيب الدمشقي وحكاية شهيد

الطبيب الدمشقي وحكاية شهيد
الحمد لله حق حمده ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه ألى يوم الدين 0
وبعد أقول في مدينة تشرفت بأقدام أبي عبيدة وخالد بن الوليد وعبادة بن الصامت وغيرهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين ، ثم سكنها ووليها ومنحها اسمه النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري أول مولد للأنصار بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقتل سنة أربع وستين للهجرة في محافظة حمص في منطقة تعرف بـ ( وادي حر بنفسه ) رضي الله عنه وأرضاه 0
في هذه المدينة التي تذهب عميقا جذورها في التاريخ الإنساني جرت تلك الحكاية التي سأرويها لكم ، معتبراً نفسي مصدرا لروايتها ومسؤولا عن مصداقيتها 0
فأنا سأنقل عن أناس أصبحوا كلهم في ذمة الله تعالى ، وهم المصدر الوحيد فيما سأتحدث عنه ، وللعلم كان بعضهم في سن العاشرة أو زاد عن ذلك بعدة سنوات وقت كان الطبيب الدمشقي حيا يمارس مهنته الإنسانية في مدينة المعرة 0
وهم والد الحاج مطيع العلوان وكان من المعمرين في المعرة وطالب الحراكي والحاج لطفي الجندي وهو من كان الدمشقي يسكن في بيته أي بيت والده وأبو رياض الجندي ، والحاج نوري الصبوح ، إضافة للحاج قدور العلوان والد عمر العلوان وهو من المعمرين في المعرة فهو ووالد الحاج مطيع العلوان توفوا عن عمر زاد المائة وخمس سنوات رحم الله الجميع ، وأسكنهم فسيح جناته 0
سؤال أوجهه لنفسي أن كيف ولماذا اهتممت بهذا الرجل فلم أجد جوابا ، زرت مقبرة الشيخ حمدان مرات وكنت ألحظ القبر من اسمه ، وهو قبر ميزه أهل المعرة عن غيره وربما عن قصد لتمييزه عن جميع قبور المقبرة ، بشكله وشهادتيه ، لقد وجدت نفسي يوما مهتما بهذا الرجل ، وبدأت أبحث عن أي معلومة تزيدني معرفة به ، ساعدني بذلك قريب لي هو الحاج عمر الأبرش ( الحرامي ) رحمه الله تعالى وكان مهتما أيضا بتربة هذا الرجل وإعادة ترميمها إضافة لابراز اسمه والسعي لإطلاقه على إحدى المؤسسات الحكومية 0
قمنا بنقل الشاهدة الرئيسية للقبر والاحتفاظ بها زمان حيث بقية عند الحاج عمر الأبرش سنين طولا ،حتى تم إعادتها بعد ترميم القبر من قبل نقابة الأطباء في سوريا 0
بدأت بكبار السن ممن يمكن أن يعرف الرجل ومن الرجال الذين ذكرتهم سابقاً
وكنت أسأل من هو الطبيب الدمشقي فكنت ألتقى الإجابة التي أجمعوا عليها ؟ نعم هو حسني أفندي ، ومتى قدم المعرة ؟ جاء مرافقا لجيش الثورة العربية مع الأمير عبد الله ، لِم استقر في المعرة ؟ لا نعلم 0 أقول ولعله رحمه الله تعالى عمل بالحديث الشريف فعن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبتَ خيراً فأقِمْ - ، مسند الإمام أحمد (2/ 198) 0
ومع استمرار السؤال تكون لدي كم مقبول من المعلومات عن ذلك الرجل ،فما نعرفه أنه هو طبيب حكومي مارس منهته في السريا القديمة وسط المدينة القديمة إلى الغرب من الجامع الكبير ، وهو من أبناء دمشق 
وهو متزوج ؟ فهو أب لثلاثة أبناء ولد وابنتين
زار دمشق بعد إقامته في المعرة في أغلب الظن مرة واحدة وقد غادرت عائلته المدينة بعد وفاته وانقطعت صلتهم بها 0
كيف هو شكله لباسه ؟ وكانت كل الإجابات متماثلة نقلتها إلى مدرس الرسم في المدرسة وهو من المدرسين الفنانين على مستوى الجمهورية العربية السورية (الأستاذ طه الإبراهيم من بلدة معرشمشة 0فقام برسم وافقة الصفات التي ذكرت عنه وقد لاقت قبول عند من عرفه 0
والمشكلة التي كانت مثلت العقبة لدي هي معرفة نسبه ، فالدمشقي لم تكن كنيته في أغلب الظن بل إلحقت به بعد إقامته في المعرة باعتباره من مدينة دمشق 0
سنين حاولت التأكد من ذلك وقد ساعدني في ذلك الأستاذ كامل شحادة مدير متحف المعرة والحاج عمر الأبرش رحمهم الله تعالى 0
اعتمدنا على على الجريدة الرسمية للحصول عن أي معلومات إضافية تفيدنا في ذلك ، وللدكتور عبد السلام العجلي جهد مشكور في البحث عن حياة ذلك الرجل ومن يمت إليه بصل 0وقد استمر البحث والإعلان لمدة زادت عن السنتين دون جدى تذكر 0
ومهما يكن من أمر فالرجل عاش في المعرة لمدة عامين اثنين كان من خلالهما أنموذجا للتواضع والإخلاص في في عمله الإنساني ، وهكذا عرفه أهل المدينة ولهذه الصفات أحبوه ، كيف وهو يعالج الكبير والصغير لا يأل ذلك أن كان ليلا أو نهارا ، ممتنعا عن ذلك أي مقابل سوى الأجر الشهر الذي خصصته له الدولة0
فهو بذلك طبيب سوري درس الطب في مصر وتخرج من جامعة القاهرة ومارس المهنة في دمشق بداية ثم تحول بعدها للمعرة ليكون أول طبيب مجاز سكن المعرة ومارس فيها مهنته في العصر الحديث 0
وإن كان تاريخها يعج بأطباء عظام شاع صيتهم ، فكان طبيب أبو جعفر المنصور الخاص من المعرة وكان الطبيب المرافق لنور الدين زنكي رحمه الله من أهل المعرة 0
إلا أنها عانت خلال القرنين الثاني والثالث عشر الهجريين الثامن والتاسع عشر الميلاديين من تدني الحالة القافية بشكل عام لأسباب معروفة لست بصدد الحديث عنها0
ولنعد لصورة الأحداث التي أدت إلى وفاة الرجل ، فسوريا لم تعد حرة كما حلم قادة الثورة العربية ومفكروها بعد زوال الخلافة العثمانية أو إن شئنا خروج الأتراك من بلادنا ، بل تحولت مباشرة لتصبح تحت سيطرة القائد الإنكليزي إدموند هنري ألنبي بين سنتي 1336- 1337 هـ 1918 – 1919 م ، تشكلت حينها سلطة عربية من عدة حكومات مؤقتة كحكومة محمد سعيد الجزائري وحكومة علي رضا باشا الركابي ومن ثم فيصل بن الشريف حسين إلى أن تمت السيطرة الفرنسية للجنرال هنري جوزيف أوجين غورو 0
هذا في الإطار العام لسوريا أما فيما يتعلق بمدينة معرة النعمان ، فلقد دخلها الفرنسيون قادمين من لبنان قبل دخول غورو دمشق ، ومع وصولهم إليها بدأت حركة المقاومة الوطنية ضدهم ، من خلال ما عرف المقاومة الشعبية وكانت تمثل رد فعل ذاتية ضد المحتل الفرنس وعلى شكل مجموعات ثم التفت حول قيادة هنانو فيما بعد 0
وقد عرف هؤلاء المقاومون في المعرة بتعبير عامي ( الجتا ) ومع بدء هذه المعارك مع الفرنسيين برز دور الطبيب الدمشقي رحمه الله تعالى 0 الذي مثّل بيته الواقع في الحي الشمالي – وهو منزل الحاج لطفي الجندي يرحمه الله تعالى المشفى الذي يستقبل مصابي المعارك من المعريين وغيرهم ، حيث استخدم الدمشقي المغارة الموجودة في البيت لإخفاء المصابين وعلاجهم ( والمغارة قبو للمهام الخاصة وملاذ يختبؤون به ورما كان موصولا بمغارة الجوار أحيانا له باب جانبي أوأرضي مخفي ، وكانت موجودة في كل بيوت المعرة تقريباً ومعروفة منذ عهد الغزو الفرجي لها قبيل نهاية القرن الخامس الهجري)0
وللعلم أيضاً أنه لم يكن في المعرة صيدلية لبيع الأودية حينها ، بل كان والد الحاج نوري الصبوح يرحمه اله تعالى هو بائع الأودية الوحيد في المدينة وهي في معظمها أدوية طبيعية مما يحتاج الناس فأصبح المصدر الوحيد لأودية الدمشقي في عمله وكان بيته غير بعيد عن منزل الدمشقي رحمه الله تعالى 0
استخدم الدمشقي مغارة بيته كمكان للعناية بأصحاب الحالات الخاصة من جرحى المجاهدين والعناية بهم 0
إلا أن سلاح الغدر وعون الخونة أوصل الفرنسين لوجود بعض الجرحى من شجعان المعرة وجبل الزاوية لديه0
ففاجئه الضابط الفرنسي برنار دي سفير وهو برتبة الملازم أول ، والمسؤول عن منطقة المعرة وجسر الشغور مع ثلة من الدرك الفرنسي ليلاً بزيارة خاصة كان هدفها التأكد من الخبر ومدى صحته 0
أحرج الطبيب الدمشقي من تلك الزيارة للجند الفرنسيين وكان منهم العربي والإفريقي ولا سيما السنغالي ، وعلم أن الزيارة لن تنتهي دون تفتيش المنزل ، فاستأذن للإعداد الشاي للملازم الفرنسي ومن برفقته - وكان الشاي وقتها مشروب العائلات الميسورة في المعرة – في حين أرسل من يخدم في البيت إلى والد الحاج نوري الصبوح يطلب مادة الزرنيخ ، ليضعها في الشاي الذي سيقدمه للفرنسيون ، إلا أن قدر الله لم يكن كالذي خطط له فطلب الضباط الفرنسي منه شرب الشاي وكأنه قرأ في وجهه ما قد خبأ من كيد له ولمرافقيه 0
تململ الدمشقي وتعلل وعندها أُشْرِب الشاي مكرها فأدى ذلك لوفاته ، ثم قام الفرنسييون بأخذه معهم ومن ثم دفنه ليلا وإخفاء معالم القبر 0 وما ذكرته هو نقل عن العناصر العربية التي شهدت ما حدث وقتها ومن ثم نقلوه إلى أهل المعرة بعد ذلك 0
فُقِد الدمشقي أياما سواء في مقر عمله في السرايا الحكومي ، وكذلك في الأمكنة التي كان يرتادها كمضافة آل الجندي وآل الحراكي ثم شاع الخبر بفقده ليعم أرجاء المدينة التي حاول أهلها استجلاء الأمر دون طائل 0
إلا أن مشيئة الله أبت أن يبقى خبر هذا الرجل في طي الكتمان فبعد أكثر من أسبوعين توفي رجل من أهل المدينة ومن الحي الذي يسكنه الدمشقي وكان من عادة أهل المعرة – ولازال الأمر معروفاً ما أمكن ذلك - أن يدفن الميت قرب أقربائه 0
وكان من قدر الله أن يكون المكان الذي اختير لحفر القبر هو نفسه المكان الذي دفن فيه الطبيب الدمشقي من قبل الفرنسيين ، فعند القيام بحفر القبر وجد من يقومون بالحفر أن التراب قد ردم حديثا فخُشي من وقوع جريمة قتل ما ، وعندما تابعوا الحفر وجدوا جسد الدمشقي مدفونا بثيابه ! 0
شاع الخبر بين أهل المدينة الذين قاموا بما يتوجب عليهم تجاهه ، حيث كفن وأعيد دفنه وجعلت له حجرة ميزواها في شكلها عن باقي القبور كعلامة تميزه عن بقية القبور ، وللتذكير فعادة إبراز  القبور لا زالت متفشية في بلادنا 0
ولعلي هنا لن أبالغ في الرفع من شأن الرجل الذي غدا في ذمة الله تعالى ولكنني سأنقل لكم ما سمعت وبطريق الصدفة من أحد أبناء المعرة وهو رجل لم يعرف الدمشقي قط ، ولا يدري شيئا عن حكايته وهو الحاج ( سعيد الضبلط ) يرحمه الله تعالى ، وكان في شبابه يعمل معماراً وصانعا لحُجَر المقبرة وكان من العادة ومنذ أكثر من ثلاثة عقود أن يقومون صانعوا الحجر بإعادة بنقض القبر حتى ما يسمى بالشطيحة وهو الحجر الذي يوضع على صندوق القبر - وقد يقومون برفع الشطائح كنوع من الفضول – ثم يضعون الحجارة ويصبون عليهم الاسمنت كقاعدة لما سيبنى عليها على سطح الأرض 0
وأعود لما روى الحاج سعيد الضبلط وكان حاضر في جنازة ، خلال دفن أحد شباب المعرة الذي توفي بحادث سيارة سنة 1419 هـ 1998 م وكنت أنا وقتها في جملة من شيع الجنازة فكان لا بد لي من زيارة الدمشقي والدعاء له بما يسر الله لي ، فوجدت الحاج سعيد الضبلط واقفا وقد تحلق معه ثلة ممن رافق الجنازة يشرح لهم أشياء تخص القبر 0
رجوته أن يعيد ما ذكر فقال : منذ أكثر من عشرين سنة كنت أقوم بتركيب الحجرة القربية من قبر هذا الرجل وكان على غير حالته التي هي عليه الآن ، فقد جددت حجرته - ثم تابع وهو لا يعلم مدى اهتمامي بصاحب هذا القبر فقال فعندما وصلنا للشطائح ونتيجة للحفر فتح جزء من ناحية القدمين لصاحب هذا القبر وساقني الفضول لأعلم مدى ابتلاء صاحبه فوجدت أمراً غريبا أدهشني وأثارني ( جسد بارد وكفن بحاله وكأن الميت مات للتو ) ثم تابع وقال فخرجت من القبر الذي كنا نحفره لأطلع على اسم صاحب القبر ومن هو فكان الطبيب الشهيد حسن حسني الدمشقي فدعوت من كان معي ليطلعوا على أمرا جلل رجل مات سنة مات منذ أكثر من خمسين سنة وهو كأنه يوم دفن 0
فأقسمت بالله عليه فأقسم الرجل قسم الواثق من نفسه وقد تغلفني الصمت واعترني الدهشة لحظات لمعلومة هي في ذمة الراوي 0 ثم توجه إلي قائلا بعد عرفني ( يا أستاذ ليش مستغرب الله قادر) وأنا احدثك عن رجل ليس من قرابتي ولا من أهلي ولم أعرف عنه شيئا سوى اسمه وأنت من عرفني به الآن ( بدك انكش القبر لفرجيك إنو كلامي صحيح وإن كنت كاذبا إدفنوني معه )
لم تنهي الحكاية فلقد تابعت والحاج عمر الأبرش والاستاذ كامل شحادة أمر الرجل حتى حصلنا على أذن رسمي بتسمية المدرسة التي كنت أتولى إدراتها باسم ( الطبيب الشهيد حسن حسني الدمشقي ) وكان موقعها جنوبي المعرة ومن ثم نقلنا إلى قرب مديرية الزراعة بالمعرة 0
اهتمت نقابة أطباء سوريا مشكورين وبالذات فرع إدلب بالأمر وقدموا ما يلزم لترميم القبر 0
لا بل أصبح الدمشقي عضوا فخريا في نقابة أطباء سوريا ومن جملت اهتمامي به فقد حصلت على صورة عن البطاقة الشخصية للضابط الفرنسي الذي أمر بقتل الدمشقي رحمه الله تعالى 0
هي حكاية أظنها حكاية شهيد
ولقد قلت :
هذا الضريح به الدمشقي المنتمي * للعز فــــــــــي أصل وأرفع منزل
نال الشهادة غربة من بعد مـــــــا * نـــــــــــاداه داع الحق أقبل فاعتل
مذ في الفدا دعاه تـــــاريخ الوفى * لبـــــــــــــى نداء الحق دون تمهل
وبعد فقبر الطبيب الشهيد حسن حسني الدمشقي موجودة في مقبر الشيخ حمدان في معرة النعمان بن بشير الأنصاري وفي الجهة الشمالية للمقبرة على مقبرة من الباب الشمالي وباتجاه الجنوب الشرقي منه بعدة أمتار0
محب الدمشقي
المدرس : هشام محمد كرامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق