الجمعة، 6 سبتمبر 2024

لمسات بيانية في نصوص من التنزيل – من سورة المائدة . وللموضوع تتمة بإذن الله تعالى سأل سائل عن قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَةٌ
إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

ولمسات بيانية في نصوص من التنزيل – من سورة المائدة . وللموضوع تتمة بإذن الله تعالى

سأل سائل عن قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .

4- وقيل: إن المقام مقام تَبرؤٍ مما نُسِبَ إليه، وليس مقام طلبِ عفوٍ ومغفرة فلا يصح في هذا المقام الصفح والمغفرة.

جاء في (البرهان) : "وقيل لأنه مقام تَبرٍّ، فلم يذكر الصفةَ المقتضيةَ استمطارَ العفوِ لهم، وذكر صفة العدل في ذلك، بأنه العزيز الغالب، وقوله: (الحكيم) الذي يضع الأشياء في مواضعها فلا يعترض عليه، إن عفا عمن يستحق العقوبة".

5- وقيل: إنه لا يجوز المغفرة والرحمة، أو التعريض بهما لهؤلاء لأن هؤلاء مقطوع لهم بالعذاب، وعدم المغفرة، لأنهم مشركون قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] . وكما قال الله: إنه لا يغفر للمشركين، قال: إنه لا يصح سؤال المغفرة للمشركين لا من نبيٍّ، ولا من غيره، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} [التوبة: 113] . فلا يجوز التعريض بالمغفرة، بل الذي يصح هو تفويض الأمر إليه، وتركه إلى حكمته سبحانه، بل إنَّ ما دان به هؤلاء أكبر من الشرك وأعظم، فإن الشرك أن تجعل لله نداً، وكان المشركون في الجاهلية يجعلون مع الله آلهةً أخرى يعبدونهم، ليقربوهم إليه زلفى. وأما هؤلاء فقد عبدوا المسيح وأمه من دون الله، فإنهم جعلوه أقل من الشريك، فهم أوْلى بعدم المغفرة ورجائها لهم. 6- ولا يَحْسنُ طلبُ المغفرة لهم، أو التعريض بها من السيد المسيح من جانب آخر، ذلك أن الأمر يتعلق به هو، أعني بعيسى، عليه السلام، فإنه مسؤول مستنطق عما ادُّعيَ عليه أنه قاله وهو أنه طلب من الناس أن يعبدوه وأمه، وأن يتركوا عبادة الله. وقد ذكر السيد المسيح أن هذا افتراء عليه، فكيف يصح أدباً أن يطلب المغفرة أو يعرض بها لهؤلاء المفترين الذين أعلَوه وأمه على الله سبحانه؟ إنه لو كان الأمر يتعلق بغيره، لكان من السماجة الشفاعة لهم، لأن ما فعلوه أعظم من الشرك، فكيف والأمر يتعلق به هو؟ إن طلب المغفرة لهم يعني التغاضي أو التهوين من شناعة هذا الأمر ويوهِمُ الرضا به والارتياح له. ألا ترى أنه لو اتُّهمَ مسؤول الشرطة مثلاً بأنه أصدر أمراً للإطاحة بالملك، ليكون هو مكانه، ثم قبض على هذا المسؤول واستجوب، فنفى أن يكون له علمٌ بذلك، أكان يصح أن يَطلبَ من الملك العفو عن هؤلاء الذين خلعوا سلطانه، وأعلنوا العصيان عليه، وادعوا أن هذا بأمرِ مسؤول الشرطة نفسه؟

إنه الآن في مقام دفع التهمة عن نفسه، وإثبات براءته، فكيف يصح أن يطلب العفو عن هؤلاء الجناة المفترين؟ إنه الآن في موقفٍ يحتاجُ إلى الشفاعة لا أن يشفع هو. فتبين من هذا أن ختم الآية بما ختم من العزة والحكمة هو الأولى.

ونشير إلى جانب لطيف آخر في الآية وهو قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، فإنه لم يقل (إن تعذبهم فإنهم أحقاء بذلك) أو (فذلك عدل) ذلك أن كونهم عبادة، معناه أنه المستحقُّ للعبادةِ دون غيره، وأنه الإله الحق. فمستحق العبادة مَنْ كان الخَلْقُ عباده دون مَنْ ليس له عباد. فإنه لو قال: (فإنهم أحقاء بذلك) أو قال: (فذلك عدل) لم يعن ذلك أنهم عباده. فالناسُ ليسوا عباداً لمن يعدل، كما أنهم إذا كانوا أحقاء بالعذاب، فليس معناه أنهم عباد لمن عذّب. فالذي يعذّب شخصاً أو جماعة لا يعني أن المعذبين عباده. فاختيار لفظ العبودية أنسب شيء في هذا المقام. وفيه معنى آخر، وهو أنهم لما كانوا عباده، فليس هناك من معترض على ما يفعل بهم من تعذيب أو مغفرة، فالأمر كله إليه، ومتروك لمشيئته، ومناط بعزته وحكمته وحكمه، فإنه هو العزيز الحكيم. وكذلك فعل سيدنا عيسى، عليه السلام، فقد أناط الأمرَ بعزته وحكمته وحكمه وفَوَّضَهُ إليه.

وانظر من ناحية أخرى إلى الضمير (أنت) وتعريف {العزيز الحكيم} للدلالة على توكيد الحكم، وقصر العزة والحكمة عليه والكمال فيما وصف به، فإنه في الحقيقة لا عزيزَ، ولا حكيمَ ولا حاكم سواه. فإنه لم يقل: (فإنك عزيز حكيم) ذلك أن هذا التعبير لا يفيد قَصْرَ الصفتين عليه - سبحانه - ولا كمالهما فيه. فإنك إذا قلت لأحد: (إنك كريم سمح) فلا يفيد ذلك قصر الصفتين عليه؛ بل يفيد إثبات الوصفين له بخلاف ما إذا قلت (إنك أنت الكريم السمح) ، فإنَّ ذلك يفيد القصر أو الكمال فيما وصفت. فقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} يفيد قصر هذين الوصفين عليه، وكمالهما فيه دون غيره بمعنى: إنه لا عزيزَ ولا حكيم على وجه الكمال والحقيقة سواك. وهذا التعبير أولى في هذا الموطن، لأنه في موطن نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له، فهو المتفرد بذاته وصفاته لا يشاركه ولا يشابهه فيهما أحد.

لمسات بيانية في نصوص من التنزيل - (ص: 74)- الدكتور فاضل صالح السامرائي 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق