الأحد، 15 سبتمبر 2024

حُسْنُ الْمَقْصِدِ فِي عَمَلِ الْمَوْلِدِ

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

حُسْنُ الْمَقْصِدِ فِي عَمَلِ الْمَوْلِدِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يقول الجلال السيوطي رحمه الله الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ، فَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، مَا حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ؟ وَهَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ؟ وَهَلْ يُثَابُ فَاعِلُهُ أَوْ لَا؟

الْجَوَابُ: عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ عَمَلِ الْمَوْلِدِ الَّذِي هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَرِوَايَةُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَقَعَ فِي مَوْلِدِهِ مِنَ الْآيَاتِ، ثُمَّ يُمَدُّ لَهُمْ سِمَاطٌ يَأْكُلُونَهُ وَيَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ - هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِمَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلَ ذَلِكَ صَاحِبُ إِرْبِلَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ أَبُو سَعِيدٍ كُوكْبُرِي بْنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ بَكْتَكِينَ، أَحَدُ الْمُلُوكِ الْأَمْجَادِ وَالْكُبَرَاءِ الْأَجْوَادِ، وَكَانَ لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ الَّذِي عَمَّرَ الْجَامِعَ الْمُظَفَّرِيَّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، قَالَ ابن كثير فِي تَارِيخِهِ: كَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ مُجَلَّدًا فِي الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ سَمَّاهُ (التَّنْوِيرُ فِي مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ) ، فَأَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِي الْمُلْكِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْفِرِنْجِ بِمَدِينَةِ عَكَّا سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، مَحْمُودُ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ. قَالَ سبط ابن الجوزي فِي مِرْآةِ الزَّمَانِ: حَكَى بَعْضُ مَنْ حَضَرَ سِمَاطَ المظفر فِي بَعْضِ الْمَوَالِدِ أَنَّهُ عَدَّ فِي ذَلِكَ السِّمَاطِ خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسِ غَنَمٍ شَوِيٍّ وَعَشَرَةَ آلَافِ دَجَاجَةٍ وَمِائَةَ فَرَسٍ وَمِائَةَ أَلْفِ زُبْدِيَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ صَحْنِ حَلْوَى، قَالَ: وَكَانَ يَنْحَصِرُ عِنْدَهُ فِي الْمَوْلِدِ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، فَيَخْلَعُ عَلَيْهِمْ وَيُطْلِقُ لَهُمْ، وَيَعْمَلُ لِلصُّوفِيَّةِ سَمَاعًا مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْفَجْرِ، وَيَرْقُصُ بِنَفْسِهِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى الْمَوْلِدِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ لَهُ دَارُ ضِيَافَةٍ لِلْوَافِدِينَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ، فَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَسْتَفِكُّ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أُسَارَى بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى الْحَرَمَيْنِ وَالْمِيَاهِ بِدَرْبِ الْحِجَازِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، هَذَا كُلُّهُ سِوَى صَدَقَاتِ السِّرِّ، وَحَكَتْ زَوْجَتُهُ ربيعة خاتون بنت أيوب أُخْتُ الْمَلِكِ الناصر صلاح الدين أَنَّ قَمِيصَهُ كَانَ مِنْ كِرْبَاسٍ غَلِيظٍ لَا يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، قَالَتْ: فَعَاتَبْتُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لُبْسِي ثَوْبًا بِخَمْسَةٍ وَأَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَلْبَسَ ثَوْبًا مُثَمَّنًا وَأَدَعَ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ. وَقَالَ ابن خلكان فِي تَرْجَمَةِ الْحَافِظِ أَبِي الْخَطَّابِ بْنِ دِحْيَةَ: كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْفُضَلَاءِ، قَدِمَ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَدَخَلَ الشَّامَ وَالْعِرَاقِ وَاجْتَازَ بِإِرْبِلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ، فَوَجَدَ مَلِكَهَا الْمُعَظَّمَ مظفر الدين بن زين الدين يَعْتَنِي بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، فَعَمِلَ لَهُ كِتَابَ التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَأَجَازَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْنَاهُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي سِتَّةِ مَجَالِسَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَافِظُ الْعَصْرِ أبو الفضل ابن حجر عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ، فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: أَصْلُ عَمَلِ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَحَاسِنَ وَضِدِّهَا، فَمَنْ تَحَرَّى فِي عَمَلِهَا الْمَحَاسِنَ وَتَجَنَّبَ ضِدَّهَا كَانَ بِدْعَةً حَسَنَةً وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَخْرِيجُهَا عَلَى أَصْلٍ ثَابِتٍ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: هُوَ يَوْمٌ أَغْرَقَ اللَّهُ فِيهِ فرعون وَنَجَّى مُوسَى فَنَحْنُ نَصُومُهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى» ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ فِعْلُ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ إِسْدَاءِ نِعْمَةٍ أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ، وَيُعَادُ ذَلِكَ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ، وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنَ النِّعْمَةِ بِبُرُوزِ هَذَا النَّبِيِّ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّى الْيَوْمُ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُطَابِقَ قِصَّةَ مُوسَى فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُلَاحِظْ ذَلِكَ لَا يُبَالِي بِعَمَلِ الْمَوْلِدِ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، بَلْ تَوَسَّعَ قَوْمٌ فَنَقَلُوهُ إِلَى يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ عَمَلِهِ. وَأَمَّا مَا يُعْمَلُ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى مَا يُفْهِمُ الشُّكْرَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالصَّدَقَةِ وَإِنْشَادِ شَيْءٍ مِنَ الْمَدَائِحِ النَّبَوِيَّةِ وَالزُّهْدِيَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لِلْقُلُوبِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ السَّمَاعِ وَاللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُبَاحًا بِحَيْثُ يَقْتَضِي السُّرُورَ بِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا بَأْسَ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ، وَمَا كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا فَيُمْنَعُ، وَكَذَا مَا كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى.

يا رب عليك بمن تسبب في بلائنا

يا رب فرج عن الشام وأهل الشام

ـــــــــــــــــ

وفيات الأعيان  - ابن خلكان(3/ 449)

السراج المنير البداية والنهاية - ابن كثير (13/ 159)

الحاوي للفتاوي – الجلال السيوطي(1/ 221)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق