السبت، 8 نوفمبر 2014

تواضعك في شرفك أشرف من شرفك

تواضعك في شرفك أشرف من شرفك
الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافؤ مزيده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل وصبحه وسلم 0
الشَّرفُ: كلمة في اشتقاقها عربية في دلالتها واشتقاقها ، وهي مصدر لكلمة الشَّريف. والشَّرفُ في اللغة : ما أشرف من الأرض. والمشرف هو المكان الذي تشرف عليه وتعلوه. ومشارف الأرض أيضاً  أعاليها0
وهي من الكلمات التي شاع استخدمها منذ اشتقت لتعيش بلفظها ومحتوها في حياتنا وحتى الذين فقدوا في حياتهم أبسط دلالتها يدعونها وكأنها لباسهم وزينتهم بين الناس 0
وفي الشعر لقد تغنى العرب بمعناها في الجاهلية كثيرا في حين خف استخدمها بعد ذلك لتصبح الكلمة جزءا الحالة التي انتظمت ضمن دائرة ضمت كل القيم النيلة التي هذبها الإسلام 0
ولعله من الضروري أن نميز بين الشرف والسيادة فليس بالضرورة أن يكون من اتصف بالشرف في قوم هو سيدهم ، ولربما كان سيدهم ، فالسيد في القوم من تولى تدبيرهم ، وأما كَبِيرهمْ فهُوَ الَّذِي يفضلهم فِي الْعلم أَو السن أَو الشّرف وَقد قَالَ تَعَالَى (فعله كَبِيرهمْ) فَيجوز أَن يكون الْكَبِير فِي السن وَيجوز أَن يكون الْكَبِير فِي الْفضل وَلهذا يُقَال لسَيِّد الْقَوْم كَبِيرهمْ وَلَا يُقَال لكبيرهم سيدهم 0
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ» فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ» قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ : «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ ، إِذَا فَقُهُوا»
ولنا أن نعلم الوصول للشرف أسس ربما كان أحدها سبيلا كافيا للوصول إليه فالأحنف بن قيس قيل أنه وصل للسؤدد بالحلم وحضين بن المنذر وصل إليه برأيه ومالك بن مسمع بمحبته في العامة وسويد بن منجوف بعطفه على أرامل قومه 0
والحقيقة أن الشرف ليس بالضرورة له أن يورث وقديم قيل : لا تقنع بالشرف التالد، وهو الشرف للوالد. واضمم إلى التالد طريفاً، حتى تكون بهما شريفاً. ولا تُدل بشرف أبيك، ما لم تدل بشرف فيك. إن مَجد الأب ليس بمُجد، إذا كنت في نفسك غير ذي مَجدٍ. الفرق بين شرفي أبيك ونفسك، كالفرق بين فرقي يومك وأمسك. ورزق الأمس لا يسدّ اليوم كبداً، ولن يسدّها أبداً.
ونحن أن الدُّرُّ يخرج من الصدف وهز أكثر قيمة منه وهنا لنا أن لا نستغرب أن ينحط العالم ويرتفع الجاهل ، إلا أن العلماء هم زينة الناس سادوا أم لم 0
وقال بعض الحكماء: «لا يكون الشرف بالنسب. ألا ترى أن أخوين لأب وأم يكون أحدهما أشرف من الآخر، ولو كان ذلك من قبل النسب لما كان لأحد منهم على الآخر فضل، لأن نسبهما واحد، ولكن ذلك من قبل الأفعال، لأن الشرف إنما هو بالفضل لا بالنسب» . قال الشاعر:
أبوك أبي والجد لا شــك واحدٌ ... ولكننــــــا عودان آس وخروع
قد يدرك الشّرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصــــه مرقوع
وقول : المغيرة بن حبناء
أَبوكَ أَبي وَأَنتَ أَخي وَلكِن       تَفاضَلَت الطَبائِعُ وَالظُروفُ
وَأُمُّكَ حينَ تُنَسبُ أُمُّ صِدقٍ       وَلكِنَّ اِبنَها طَبعٌ سَــــــخيفُ
وَقَومَكَ يَعلَمونَ إِذا اِلتَقينــا       مَنِ المَرجُوُّ مِنّـــا وَالمَخوفَ
وورد في الخبر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ جَامِعٍ: «لَا يُسْرِعُ»
ولنا في المعمرين الذين امتازوا بقدر كبير من الخبرة في الحياة التي عاشوها عبر الأجيال ، التجارب التي مروا بها ، دورس في نرمي إليه ، ولهذ فدراسة حياتهم تكسب المرأة الخبرة في الأسس التي يجدر على مبتغ سلم الشرف مراعاته وإدراكه لأن الشرف ليس غاية بحد ذاته ، ليرتقي فيه المرء عبر سلم معروف يوصله إلى ما يريد بل عليه إدراك قضايا لا بد منها حتى لا تذل قدمه ويهوي مجردا من أبسط سمات الشرف التي رغب التحلي بها 0
وقد قيل :
حلبت الدَّهر أشــــطره حياتي ... ونلتُ من المنى فوق المزيدِ
وكافحتُ الأمورَ وكافــــحتني ... ولم أخضعْ لمعضـــلةٍ كؤودِ
وكدتُ أنالُ في الشرف الثريّا ... ولكنْ لا ســــبيلَ إلى الخلودِ
ومن المعمرين هؤلاء كان قس بن ساعدة من الإِيادي وهو مما لا يشك أحد في شرفه ومكانته ولقد عاش دهراً طويلاً، ومن بالغ قال ستمائة سنة وقيل أكثر من مائتي سنة وكان من أعقل العرب وحكمائهم العرب 0
فلقد كان أول من كتب : من فلان إلى فلان ، وأول من أقر بالبعث من غير علم، وأول من قال: أما بعد، وأول من خطب بعصا. وفيه قال أعشى بني قيس:
وأحلم من قُسٍ وأمضى من الذي ... بذي الغِيلِ من خَفّانَ أصبحَ خادِرا
ومن التاريخ نقرأ قصص من اتصف بالشرف وأسوق هذه الحكاية فلقد حدث العتبي عن بعض أشياخه قال كنت عند المهاجر بن عبد الله وإلى اليمامة فأتي بأعرابي كان معروفاً بالشرف فقال له : أخبرني عن بعض عجائبك قال عجائبي كثيرة ومن أعجبها أنه كان لي بعير لا يسبق وكان لي خيل لا تلحق فكنت أخرج محارباً فخرجت فاحترشت ضباً فعلقته على قبتي ثم قلت لا أرجع خائباً فمررت بخبأ ليس فيه إلا عجوز وليس معها غيرها فقلت يجب أن تكون لها رائحة من غنم وإبل فلما أمسيت إذ أنا بإبل مائة فيها شيخ عظيم البطن شئن[1] الكفين ومعه عبد أسود فلما رآني رحب بي ثم قام إلى الناقة فحلبها وناولني العلبة فشربت ما يشرب الرجل فتناول الباقي فضرب به جبته ثم حلب تسع أنيق فشرب ألبانهن ثم نحر حوراً فطبخه ثم ألقى عظامه بيضاء ثم جثى على كومة من بطحاء وتوسدها ثم غط غطيط البكر، فقلت والله هذه الغنيمة الباردة ثم قمت إلى فحل إبله فخطمته[2] ثم قرنته ببعيري وصحت به فأتبعني وأتبعته الإبل أربا كأنه في قطار فصارت خلفي كأنه حبل ممدود فمضيت أبادر ثنية بيني وبينها مسيرة ليلة للمسرع فلم أزل أضرب بعيري مرة بيدي ومرة برجلي حتى طلع الفجر فأبصرت الثنية فإذا عليها شيء أسود، فلما دنوت إذا الشيخ قاعد في قوسه في حجره فقال أضيفنا قلت نعم قال أتسخو بنفسك عن هذه الإبل قلت لا ، فأخرج سهماً كأنما نصله لسان كلب ثم قال أبصره بين أذني الظبي المعلق متى ألقيته فرماه فصدع عظمه عن دماغه، ثم قال ما تقول قلت أنا على رأيي الأول ثم قال أبصر هذا السهم الثاني في قفارة ظهره الوسطى ثم رمى فكأنما غرسها فيه ثم قال ما رأيك قلت أحب أن أستثبت، قال انظر هذا السهم الثالث في علوة ذنبه والرابع والله في بطنك ثم رماه فلم يخطئ العكوة[3]، قلت آنزل آمناً قال نعم ثم دفعت إليه خطام فحله وقلت هذه إبلك لم يذهب منها وبرة وأنا أنتظر متى ترميني بسهم تقصد به قلبي فلما تباعدت قال أقبل فأقبلت والله فرقا من شره لا طمعا في خيره فقال أحسبك ما جئت الليلة إلا من حاجة قلت أجل والله قال فاقرن من هذه الإبل بعيرين وامض لمطيتك فقلت لن والله حتى أخبرك عن نفسك فلا والله ما رأيت أعرابياً قط أشد ضرساً ولا أعدى رجلاً ولا أرمى يدا ولا أكرم عفواً ولا أسخى نفسا منك، قال فاستحى وترك الإبل جميعها.
ومن خير ما أذكر من قصص الشرف قصة حلف الفضول وكان من شأن حلف الفضول وذلك أنه كان حلفا لم يسمع الناس بحلف قط كان أكرم منه ولا أفضل منه، وبدؤه أن رجلا من بني زبيد جاء بتجارة له مكة فاشتراها منه العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم فمطله بحقه، وأكثر الزبيدي الاختلاف إليه فلم يعطه شيئا، فتمهل الزبيدي حتى إذا جلست قريش مجالسها وقامت أسواقها قام على أبي قبيس[4] فنادى بأعلى صوته:.
يــــــا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائــــي الأهل والنفر
ومحرم شـعث لم يقض عمرته ... يا آل فهر وبين الحجر والحجر
هل مخفر من بني سهم بخفرته ... أم ذاهب في ضلال مال معتمر
إن الحرام لمن تــــمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفــــاجر الغدر
ثم نزل، وأعظمت قريش ما قال وما فعل، ثم خشوا العقوبة وتكلمت في ذلك المجالس ، ثم إن بني هاشم وبني المطلب وبني زهرة وبني تيم اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما وتحالفوا بينهم أن لا يظلم بمكة أحد إلا كنا جميعا مع المظلوم على الظالم حتى نأخذ له مظلمته ممن ظلمه شريف أو وضيع منا أو من غيرنا، ثم خرجوا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن حضر ذلك الحلف ودخل فيه قبل أن يوحي إليه بخمس سنين، فكان يقول وهو بالمدينة: لقد حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا من حلف الفضول ما أحب أني نقضته وإن لي حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت. وإنما سمي «حلف الفضول» فقد حكي أن قريشا لما سمعت بما تحالفوا عليه قالوا: هذه والله الفضول! وخرجوا من مكانهم حتى تحالفوا، فانطلقوا إلى العاص ابن وائل فقالوا: والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه  حقه! فأعطى الرجل حقه، فمكثوا كذلك لا يظلم أحد أحدا بمكة إلا أخذوا  له .
وقيل سمي بذلك تشبيها له بحلف كان بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ من القوي للضعيف، وللغريب من القاطن
وممن جمع بين السيادة والشرف نقل عن أبي معاوية الضرير وهو من رجال العلم  قال: أكلت مع الرشيد يومًا، ثم صبّ على يدي رجل لا أعرفه ، ثم قال الرشيد: تدري من يصب عليك؟ قلت: لا: قال: أنا إجلالًا للعلم.
ومن عصرنا أذكر قصة جرت في حينا في المعرة ومنذ أكثر من سبعة عقود أعرف أحد أطرافها معرفة جديدة وهو واحد ممن قصها إلي قال : أردت أن أجدد بناء بيتي فهدمته وبدأت أبنيه من جديد ففوجئت بعد أن تم السطح الأول بأن سطح البناء الذي أملكه قد زادت مساحته بأن تعدت في ذلك إلى السطح المجاور لجار لي وبمساحة ليست بقليلة ، سألت البناء عن ذلك فقال جارك من أمر بذلك فاستغربت وذهبت إليه أسأله عن ذلك فقال مساحة بيتك الذي قليلة وأولادك كثر وبيتي واسع بحمد الله فلا يجوز أن أسكن بمتسع وجاري الحبيب في ضيق من سكنه0
رجوته أن يعود عن ذلك وبينت له أن مساحة بيتي تكفيني إلا أنه رفض باصرار فما كان مني إلا أن عدت إلى المعمار وأمرته بأن يزل الزيادة 0
وفي اليوم التالي وجدت الجار على السطح وهو مصرا على ما يريد وقال سأبقى حتى يتم البناء ولن أقبل إلا بأن تأخذ من سطحي ما يجعل بيتك أكثر اتساعا وراحة 0
عندها لم أجد مفرا لحل المشكلة من أقوم بالالتجاء لأهل الجاه في الحي ورجوتهم التوسل إليه ليعود عن ذلك 0
قبل الرجل بعد جهد من جاهات الحي ، ولكني ( والكلام لصاحب البيت ) لا زالت أذكر قوله ونحن خارجوا من بيته متوجها لأصحاب الجاه في الحي ( ما بعرف كيف بدي أقبل هدا الشي معقول ما جئتم ترجوني له جار بيتو ضيق وأنا بيتي واسع وأقبل ! )
وأنهي بذكر أسماء لا يختلف الناس في امتلاكها ذوأبة الشرف وأنا أدرك أن سيد ولد آدم في كل الصفات التامة الكاملة هو الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام ومعه رسل الله وأنبيائه 0
وأبدأ بذكر سيدنا خالد بن الوليد ويكفيه في شرفه قول سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه له: فرّ من الشرف يا خالد يتبعك الشرف 0
والأحنف بن قيس أيضاً وقيل لرجل من قيس : بم ساد عليكم الأحنف؟ فو الله ما كان بأكبركم سنّا ولا بأكثركم نشبا[5]. قال: بقوّته على سلطان نفسه. وقال خالد بن صفوان: كان الأحنف يفرّ من الشرف والشرف يتبعه.
أما حكايات العكس والتي تدل على قلت المروءة فهي كثيرة ولا بد أنا نعرف الكثير منها عافانا الله من سوء السيرة في حياتنا 0
ومن جميل ما قرأت في معنى الشرف
من الحلم أن تستعمل الجهل دونهُ ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالمِ
ألاأن قمة الشرف هي العبودية لله رب العالمين ورحم الله من قال :
ومما زادني شـــــــرفاً وتيهاً   وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي   وأن صيرت أحمد لي نبي
*****
نثر الدر في المحاضرات - أبو سعد الآبى (3/ 15)
المنمق في أخبار قريش (ص: 52)
مطالع البدور ومنازل السرور - الغزولي البهائي الدمشقي (ص: 232)
مسند الشهاب القضاعي (1/ 245)
المحاسن والمساوئ – الجاحظ (ص: 48)
مجالس رمضان - أحمد فريد (1/ 3)
الكلم النوابغ - الزمخشري(ص: 41)
الفروق اللغوية للعسكري (ص: 182)
العين - الفراهيدي(6/ 252)
صحيح البخاري (4/ 140)
شرح ديوان المتنبي للواحدي (ص: 160)
الزاهر في معاني كلمات الناس – أبو بكر الأنباري(2/ 351)
الرسائل الأدبية الجاحط (ص: 94)
ربيع الأبرار ونصوص الأخيار - الزمخشري(5/ 304)
التذكرة الحمدونية – علي بن حمدون البغدادي(2/ 27)
تاريخ دمشق لابن عساكر (38/ 203)
تاريخ الخلفاء - الإمام السيوطي(ص: 211)
أمثال العرب - تحقيق إحسان عباس (ص: 113)
أطواق الذهب في المواعظ والخطب الزمخشري (ص: 15)
أدب الكتاب لابن قتيبة (ص: 6)
****
هشام كرامي






[1] ضعيف
[2] أي زمه بعقاله
[3] أصل ذنب الدابة
[4] أحد جبال مكة
[5] مالا والمقصود المال الأصيل البعيد عن الأساليب غير المشروعة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق