صَبِيحَةٌ مُبارَكَة
إخوَتِي أَخَوَاتِي
في بلاد المسلمين بيشاور : كشمير
كشمير التي تعني (الزعفران) في اللغة السنسكريتية، وهو زهرة
بنفسجية اللون طابت رائحة ومذاقا.. تغني بها الشعراء، وانتظر العامة أن تجف
سيقانها الحمراء فيستعملوها في تلوين طعامهم وتحسين مذاقه.. كشمير تلك.. هي أيضا
اللغم الموقوت المقتسم بين شعبي الهند وباكستان..، وشبح الحرب الجاثم على هذه
البقعة من الأرض التي شهدت منذ تقسيم القارة الهندية ثلاث حروب طاحنة.. وربما -
وفي أي وقت - تشهد رابعة ضروسا تعب الدماء..
في الطريق إلى (بيشاور) أهم المدن التي تطل على وادي كشمير.
كانت خيوط كثيرة تتشابك وتتعقد وكان لا بد من متابعة أطرافها إلى نهاياتها.
وقادتنا هذه المتابعة إلى جذور المشكلة التي تركها الاستعمار تتوهج حمما في أحضان
الدولتين. لقد بدأت الأزمة قبل 15 أغسطس 1947. تاريخ تقسيم شبه القارة الهندية بين
الهند والباكستان. وكان على ولاية كشمير، مثل بقية ولايات شبه القارة الهندية، أن
تقرر إلى أي الدولتين تنضم. كان التقسيم قد اقتضى - قبل ذلك - منح الهند شريطا
ضيقا من الأرض التي تلي حدود كشمير، بداية لزرع وجود هندي فيها. وماطل حاكم كشمير
(هري سنج) الذي يدين بالولاء للهند في إصدار قرار الانضمام إلى الباكستان. وتحرك
لورد مونباتن الحاكم الإنجليزي لدومنيون الهند يستعجل قرار أمير الولاية (هري سنج)
وراوغه الأمير- بالطبع بإيعاز هندي - وحين قابل الحاكم الإنجليزي رئيس وزراء كشمير
أعرب له الأخير عن رغبة سكان الولاية بأسرهم في الانضمام إلى الباكستان وحذره من العواقب
التي قد تترتب إذا حدث خلاف هذا. وجاء الموعد في 15 أغسطس 1947 دون أن يفصح
المهراجا (هري سنج) عن قراره بالانضمام إلى أي من الدولتين. غير أنه عقد اتفاقا مع
حكومة الباكستان بإبقاء الوضع في كشمير كما كان عليه في ظل الاستعمار البريطاني.
وبموجب هذا الاتفاق أصبحت الحكومة الباكستانية تمثل كشمير ديبلوماسيا ومسئولة عن
أمنها عسكريا. كان الاتفاق، في ظاهره، خطوة على طريق انضمام كشمير إلى الباكستان.
كان هذا هو المعلن والظاهر. لكن الأمير (هري سنج) كان في باطنه يضمر شيئا آخر..!!
الخيوط والمؤامرة
اندلعت الثورة في كشمير تتعجل قرار الانضمام إلى باكستان.
فأرسل (هري سنج) جيشه وجحافل من المتطوعين (الهندوس) فاستباحوا مدينة (بونج) معقل
الثورة، والقرى التي حولها وقتلوا 270 ألف مسلم!! وفر عشرات الألوف إلى الحدود
الباكستانية يستنجدون برجال القبائل في المنطقة. وشن رجال القبائل الباكستانية
هجوما مضادا كاسحا استطاعوا أن يحرروا خلاله ثلث كشمير وهو المسمى الآن ب (أزاد
كشمير) أو كشمير المحررة. وفر الأمير (هري سنج) إلى سريناجار) في الجزء الواقع تحت
السيطرة الهندية. ومن هناك كتب إلى اللورد مونباتن يطلب انضمام كشمير إلى الهند!!
وتلقفت (دلهي) الكرة.. فسارعت بإرسال مندوب رسمي يحمل طلب الانضمام. وسرعان ما
وقعه الأمير، وأقرت الهند انضمام كشمير إليها بعد أن أضافت لطلب الانضمام مادة
مسكنة ومهدئة للوضع المضطرب، تقول: (على أن يستفتى شعب كشمير، في المستقبل، حول
تقرير مصيره..) وتعهد نهرو آنذاك في خطابه إلى رئيس وزراء الباكستان: أن جيوشه
ستنسحب من كشمير فور استتباب الأمن فيها.. في لقاء بين محمد علي جناح مؤسس باكستان
واللورد مونباتن، واعتذر عن عدم حضوره البانديت نهرو، عرض محمد علي جناح اقتراحات
محددة لحل النزاع ووقف حالة الحرب في كشمير وكانت المقترحات تقضي بإنذار القوات
المتحاربة بالكف عن القتال خلال 48 ساعة وإلا تدخلت قوات باكستانية - هندية مشتركة
لوقف القتال. كما تنص المقترحات على انسحاب القوات الهندية وقوات القبائل
الباكستانية من كشمير. وإجراء استفتاء عاجل - تحت إشراف الدولتين - لتقرير المصير.
ووعد اللورد مونباتن بالرد على المقترحات فور عودته إلى (دلهي). كان ذلك في لاهور
(29 أكتوبر 1947).. لكن الرد ضل الطريق فلم يصل إلى الحكومة الباكستانية حتى
اليوم..!!
بيشاور القديمة
رائحة الفواكه واللحم المشوي، عبق التاريخ ودخان الطباق،
قرقعة العجلات ونقرات الصناع المهرة، ورقصات حوافر الخيل، ضجيج البيع والشراء
والمساومة، المنازل الأثرية والحارات الضيقة والبيوت التي يشد بعضها بعضا في إعياء
أسبغه القدم عليها، والشناشيل والنوافذ التي تدلت منها أغصان خضراء.. أو جافة..
ذلك كله يقتحم عليك حواسك وأنت تنقل قدميك في بيشاور القديمة.. والمدينة القديمة
سوق كبير.. ملتقى المسافرين والتجار، غبار السفر يعلو بعض الوجوه. قال مرافقنا: إن
الحرب الأفغانية المستعرة ألقت بظلالها الكثيفة على بيشاور لكثرة المهاجرين
الأفغان. وهم ينزلون إلى الأسواق ليبدأوا حياتهم الجديدة في سلام.. لقد جاءوا ومعهم
حرفهم.. إن كثيرا من المعمرين والمسنين فروا بحياتهم من جحيم الحرب إلى بيشاور.
ويستطيع أي زائر أن يميز هؤلاء الأفغان عن أبناء بيشاور من الوهلة الأولى.. النبيل
والجميل هنا أن الباكستانيين استوعبوا - على فقرهم الاقتصادي - الوافد الجديد
وتعاملوا معه برحابة صدر وخلق كريم.. ربما كان الإسلام بسماحته، وهو قوي الجذور
هنا، هو المظلة الآمنة التي تفيأوا مبادئها. والسلام والحب والأمن سمة غالبة.
والحياة الاجتماعية حميمة. فاللقاءات تبدأ دائما بالعناق والأحضان الصادقة. ولعل
(روح السلام) التي ترفرف على العلاقات الإنسانية هنا. هي السبب وراء عدم إجابتي عن
أي استفسار حول مشكلة كشمير طرحته على مسئول أو مواطن عادي.. كان بعضهم يغفل
السؤال.. والبعض الآخر يرى حلا سلميا.. بل إن هناك شبه إجماع على أن تترك المشكلة
للزمن.. فحل الخلاف بين الدولتين - الهند والباكستان - لن يتحقق إلا بنشوء جيل
جديد لم ير مذابح ما بعد التقسيم.. ولم يشهد بدء الصراع الدامي حول كشمير..
.. بسلام آمنين..
ولعل سلام النفس الذي تلمسه في الباكستانيين كان عاملا في
إطالة أعمارهم، الزائر لبيشاور يلاحظ زيادة نسبة المعمرين وكبار السن، وهم لا
يركنون إلى زوايا منازلهم، إنما يساهمون في العمل الحرفي بنشاط ودأب، وينقلون
خبراتهم ومهاراتهم إلى الأجيال اللاحقة.. وفي زيارتي لأول شارع في السوق لفت
انتباهي كثرة عيادات صنع الأطقم البديلة للأسنان.. وهي منتشرة بكثرة في كل شارع -
كما رأيت بعد ذلك - في البداية تعجبت.. ثم وجدت ذلك متسقا مع نسبة الزيادة الكبيرة
في أعداد المسنين والمعمرين في هذا المجتمع المسالم.. وعلى الرغم من ذلك فان العين
كثيرا ما تلتقط تلك الصورة للرجل في زيه التقليدي وقد تدلى من خصره سلاحه، الذي
حمله فتوة وزهوا واعتدادا، ولا غرو في هذا، فهو ينحدر من سلالة قبائل ذادت ببسالة
وكبرياء عن تراب الوطن. بل ليس متناقضا مع روح السلام السائدة أن تعد مدينة (دارا
أدام خيل) التي تقع على بعد 26 ميلا جنوب بيشاور معقلا لصناعة السلاح.. حيث يعتبر
كل منزل بها بمثابة - مصنع صغير للسلاح.. ولا ينزعج القارئ. فهي ليست ترسانة عصرية
تعج بوسائل الدمار ومنتجاته، إنما السلاح هنا هو السلاح الشخصي والعادي.. والمدينة
، والأمر هكذا، تعد متحفا فولكلوريا لتطور وحفظ هذا النوع من الصناعة.. والصناعات
التي تقدمها بيشاور مازالت تحمل الطابع التقليدي للمدينة.. صناعات جلدية ، من
أحزمة وأحذية وحقائب، وصناعات نحاسية تتجلى فيها الدقة والمهارة. حرفيون يشبهون
الصاغة منهمكون في صناعة الأواني والأطباق ، ويحلون ذلك بنمنمات دقيقة مبدعة.
الأزياء الشعبية أيضا لها نصيب كبير من التفنن والإبداع. السوق لا يهدأ والتجارة
قائمة. ومن كل صوب تقتحم خلاياك روائح الحناء والبهار والتوابل ، وترحل معها إلى
الماضي حين قادت هذه الروائح حملات أوربا، وأسالت لعاب شركة الهند الشرقية، وبدأ
سباق محموم في صراع لاقح بسعار الاستعمار وجشع الاستغلال.
البيع بالنقد... والأجل السياسي أيضا
يروي تاريخ تلك المنطقة أنه في عام 1846 أقدمت (بريطانيا
العظمى) التي كانت تسيطر على معظم أنحاء الهند على بيع كشمير.. ولم تكن المنطقة
ملكا لها.. باعتها نقدا إلى المهراجا غلاب سنج الذي أسبغت عليه حمايتها وكان من
طائفة الدوجرا التي تنحدر من القبائل الهندوسية الوثنية. وكان المقابل.. أو الثمن
750 ألف جنيه إسترليني فقط.. مقابل كشمير بما فيها ومن فيها..!! بعد ذلك بمائة
عام، يكرر التاريخ نفسه.. وفي عام 1947 تتواطأ إنجلترا ويتم بيع كشمير إلى الهند..
بيعا سياسيا هذه المرة..!! وفي يوليو 1948 أوفدت الأمم المتحدة لجنة للمساعي
الحميدة لعلها تحل النزاع .. نجحت اللجنة، في أغسطس من السنة نفسها، في الحصول على
موافقة الحكومتين الباكستانية والهندية على وقف القتال. وتحديد خط لوقف إطلاق
النار. وانسحاب القوات المتحاربة إلى ما وراء جانبي الخط. وإجراء الاستفتاء
المرتقب بين شعب كشمير لتقرير المصير. وتطبيقا لهذا القرار أصدرت كل من الهند
وباكستان أوامرها بوقف القتال اعتبارا من أول يناير 1949 وحدد خط وقف إطلاق النار
بعلاماته وأسلاكه الشائكة في 27 يوليو من السنة نفسها توطئة لحل نهائي للنزاع. لكن
خط وقف إطلاق النار هذا.. مازال حتى الآن بعد أكثر من أربعين سنة هو خط الحدود
المؤقتة بين: (أزاد كشمير الباكستانية) و (جامو وكشمير الهندية..).. وما زالت
المشكلة جمرا تحت الرماد. توالت اللقاءات والاجتماعات.. من أمم متحدة إلى وزراء
دول الكومنولث وشكلت لجان انبثقت عن لجان.. والمشكلة حية وقائمة.. وبقى الجزء يتوق
إلى التواصل مع الكل.. ثلث كشمير الباكستانية ويسكنه أربعة ملايين يهفو إلى ثلثيها
المستكين في قبضة الهند القوية.. حيث اثنا عشر مليون مواطن 85 في المائة منهم
مسلمون. عليهم وعلى الأقلية المسلمة في الهند أن يتحملوا وزر تدهور العلاقات مع
باكستان.. وعلى الأقلية الهندوكية في الباكستان أن يصيبها الشيء نفسه.. حذوك النعل
بالنعل!! إن باكستان ترى أن كشمير (خط الحياة لباكستان) هكذا صرح رئيسها الأسبق
ضياء الحق. ولكن الهند كما جاء في تصريحات مسئوليها ومنهم د. جاجندر أجادكار الذي
شغل منصب وزير العدل في إحدى الحكومات السابقة والذي يقول في كتابه (كشمير..
مراجعة للماضي..وتشوف للمستقبل).. "إن كشمير رمز الهند وأن انضمام جامو
وكشمير للهند جاء نتيجة مشروعة للإرادة الحرة للمهراجا هري سنج أمير كشمير
وممارسته لسلطاته الدستورية وهذا العمل سياسي وشرعي غير مشروط، نهائي لا يمكن
تغييره..". وتغرب شمس الإمبراطورية البريطانية وتبقى جرائمها الاستعمارية نزيفا
حادا من المشكلات الدينية والعرقية في بؤر الصراع التي خلفتها في كشمير وفلسطين
وفي أكثر من مكان في العالم شاهدا على بشاعة وجرم المستعمر.
بيشه ور: الإنسان والمهارة
.. ليست التضاريس السياسية وحدها هي ما يشد الذهن ويجذب العين
إلى هناك.. إنها أرض المفارقات الطبيعية. السهول المنسبطة التي تحاكي سرائر أهلها.
والجبال المفعمة بالأسرار التي تمتد بين الأرض والسماء. تكلم عنها هيرودوت قبل 450
عاما من ميلاد السيد المسيح، ورصد فيها "مخلوقات تشبه النمل وهي تدب في بعض
أنحاء الهند الشمالية، وهذا النمل يشبه الثعلب أو الكلاب الصغيرة!!". تحت
أقدام هذه الجبال الأعجوبة يرتمي وادي كشمير.. إنه (جنة الله في الأرض) على حد
تعبير الإمبراطور (جهان جير). وفي جزء من هذا الوادي السعيد، بين عبق التاريخ وعبق
الطبيعة تسترخي مدينة (بيشاور) في الشمال الشرقي من باكستان. تزهو باسمها المنحدر
من اللغة السنسكريتية حيث نجد أصوله في الكلمة: (بوشي - بابورا) التي تعني (مدينة
الزهور). ويبدو أن شهرتها تلك قد صاحبتها في حقب التاريخ المختلفة حتى أن
الإمبراطور المغولي (بابور) الذي حكمها في النصف الأول في القرن السادس عشر تغنى
في يومياته بزهورها وطبيعتها. كما تقول النصوص المحفوظة في متحف المدينة.. أقنعتنا
الطبيعة والحضور القوي للزهور ورائحتها بأصول التسمية.. إلا أن السيد (سيربد شاه)
مسئول الإعلام المرافق كانت لديه معلومة أخرى.. أخبرنا أن اسم (بيشاور) يتكون من
مقطعين ويكتب هكذا: (بيشة ور) وتعني الإنسان والمهارة.. وأكدت المرئيات حولنا صدق
هذه التسمية أيضا.. ففي كل الطرقات التي عبرناها - خاصة في المدينة القديمة - كان
أرباب المهن والأيدي الصناع عاكفين بحرفية فائقة ودأب ملحوظ على الصناعات اليدوية
والشعبية البسيطة.. أضاف مرافقنا: إنها سمة في (بيشه ور) أن تجد لكل إنسان حرفته
أو مهنته التي يجيدها فضلا عن صفته الاجتماعية كموظف أو معلم مثلا. ومدينة
(بيشاور) مدينة كبيرة تبدو طاعنة في السن.. فهي كما يقولون ممر لخمسة وعشرين قرنا،
وكانت وما زالت بحكم موقعها على الحدود الباكستانية الشمالية مركزا تجاريا مهما
ومعبرا للهجرات المؤقتة. هي مفترق طرق للتاريخ. حوصر جيش الإسكندر الأكبر في شمال
شرق بيشاور لمدة أربعين يوما.. كان ذلك عام 327 ق.م. ومر بها اليونانيون والفرس
والأتراك والمنغوليون. وفيها وحولها تنتشر القبائل التي تشكل أكبر مجتمع قبلي في
العالم ومهمتها حماية الحدود الباكستانية - الأفغانية. حيث تقع بيشاور على مقربة
من ممر خيبر الذي يعد من أهم المزارات السياحية. كما أنه شريان التواصل مع
أفغانستان ويقع الممر في مرتفعات سليمان. وقد يتسع هذا الممر ليصل إلى ميل كامل في
اتساعه، ويضيق في بعض المناطق ليصل اتساعه إلى 16 مترا فقط.. وهو يبدأ من حصن
"جامرود" على بعد 18 كيلو مترا من بيشاور ويمتد عبر حدود باكستان لمسافة
58 كيلو مترا. كان طبيعيا، وموقع المدينة - كما أسلفنا - في مهب الإغارات والغزوات
والهجرات، أن تتم حمايته بالحصون والأسرار. والزائر لبيشاور لا بد أن تستوقفه
بقايا هذا التاريخ ورموزه الممثلة في الحصن الأشم الرابض على أكبر تلالها. والذي
وقفنا أمامه مشدوهين لضخامته وروعة تصميمه.. وجاء صوت مرافقنا هامسا وعيناه تغوصان
في ذاكرة التاريخ:
بقايا الحصون.. بقايا التاريخ
"إلى منتصف الخمسينيات كانت بيشاور محاطة بسور كبير
يتصدى للإغارة والغزو. وكانت به ست عشرة بوابة. وهذا الحصن اسمه (بال حصار) وهو
كما ترون حصن جهم.. وليس مطلوبا في الحصون أن نبتسم مرحبة بالفاتحين.. إنه يقع على
طريق روالبندي وممر خيبر. بناه الإمبراطور المغولي (بابور) في الفترة من عام 1526-
1530. وقد تم تجديده عن طريق حاكم السيخ في بيشاور (هاري سنج نلقا) عام 1830 تحت
إشراف مهندسين فرنسيين..".
هذا ما تفضل به مرافقنا من معلومات، وهي تتسم بالدقة
التاريخية، أما ما لم يقله لنا وعرفناه عن طريق (نيسار جيل) أحد الطلبة المثقفين
من أهل المدينة، والذي تحمس لمهمتنا ورافقنا يومين في جولاتنا، ما أضافه من لمسة
إنسانية على تاريخ هذا السور حيث قال: "لعل من أشهر البوابات تلك التي كانت
تسمى (كابولي جيت) أي البوابة الكابولية، التي لم يبق منها سوى اسمها الآن.. وكانت
تقع على رأس الطريق المؤدي إلى ممر خيبر وكابول.. وكانت تحمل اسما آخر هو (قيسي
خواني بازار) وتعني شارع الحكائين المشهورين. ذلك أن الروايات والحكايات
والمسامرة، كانت خير ما يقدم إلى المسافر، بعد عناء الرحلة، مع أقداح الشاي الساخن
ذي النكهة المميزة الطازجة، ذلك كله في الخانات التي يؤمها المسافرون عند هذه
البوابة التي رحلت في غياهب الماضي". وبدأت رحلتنا مع رفيقنا الجديد، والذي
عرف الكثير، مقتربا بنا من روح المدينة لنفض بعض أسرارها المستعصية.
مجتمع الرجل
السوق.. وهو مجال لاجتذاب البشر بأنواعهم وأجناسهم، وملتقى
البيع والشراء والمساومة والانتقاء، لم يفلح، ولم نفلح نحن في مهمة اكتشاف وجه
امرأة سافر.. حتى في أشد الأماكن اجتذابا للنساء وهي محال بيع أدوات الزينة
والثياب.. وعلى الرغم من كثرة الازدحام لن تجد وجها نسويا سافرا إلا في إحدى هذه
الحالات: إما أجنبية سائحة، أو صبية صغيرة لم تخجل بعد!!.. أو عجوز مسنة لم يترك
بها الزمن ما ينتهبه الفضول بعيون البشر.. أما أن ترى فتاة جميلة أو امرأة في
مقتبل العمر تعكس لك ملمحا نسويا أو رؤية لنشاط نصف المجتمع الإنساني.. فدون ذلك
النجوم..!!
قد تجد امرأة بها مسحة من جمال وبقايا حسن دارس.. تفترش
الرصيف.. سافرة.. تبيع بعض اللعب والزينة للصغار.. وتعجب لجرأتها.. ويزول العجب
عندما تعرف أنها مهاجرة أفغانية خرجت إلى السوق.. وما يشغلها لقمة العيش وليس
الذود عن جمال ذابل!!
إذن.. فهو مجتمع الرجل..
أكد ذلك مرافقنا الشاب حين لاحظ ما يعانيه زميلنا المصور
لاقتناص ملمح من وجه نسائي.. ما إن يسفر حتى يختفي بأسرع من ومض (الفلاش)، قال:
"إننا مجتمع محافظ.. ولا تسفر المرأة عن وجهها إلا أمام ذويها.." رمقه
زميلنا المصور بنظرة ذات مغزى.. ووضع الغطاء فوق العدسة.. صامتا............
عبر طرقات وحوار ضيقة اكتظت بمحلات الصاغة وتجار الذهب،
ودكاكين العاديات القديمة، وهي كثيرة الانتشار، كثيرا ما تقع عينا الزائر على هذه
النوعية من المحلات يتصدرها وجه متغضن لشيخ مسن تتهدل لحيته بشعر أشيب، يقوم بنظم
عملات معدنية قديمة في عقد.. وقد ازدحمت أركان وحوائط المحل ببقايا أسلحة، ونقود
قديمة، وأسمال لأزياء فولكلورية، وآلات موسيقية تهدلت أوتارها، وأشياء أخر يرجع
عمرها إلى مئات السنين.. ويتفرس الرائي في وجه البائع وينقل عينيه إلى الأشياء
المبيعة ويتساءل: أيهما الأقدم؟؟!!
.. اجتزنا السوق إلى ميدان الساعة.. وقريبا منه تقع تحفة
معمارية باذخة.. إنه جامع (مشتاق) أو (جامع محبات خان) وهو اسم بانيه الذي شيده
عام 1670 عندما كان حاكما على بيشاور تحت حكم الإمبراطور المغولي (شاه جهان). وهو
يحتل مساحة كبيرة وبه مدرسة لتعليم القرآن. ولا يخلو في أي وقت من المتعبدين الذين
يؤدون الصلاة. أو من التلاميذ الذين يفترشون الأرض لتلاوة القرآن.. وفي شارع (خيبر
بازار) أحد شوارع المدينة يتوقف مرافقنا الشاب ويعانق صديقا له.. ويدور حوار
باللغة الأوردية، لم نفهم منه شيئا بالطبع.. ولكن الصديق حيانا بحماس حين قدمنا له
مرافقنا الشاب بزهو وافتخار.. ودعانا الصديق لزيارته في منزله.. وهمس لنا المرافق:
إن بيته عمره خمسمائة عام وتسكنه سبع عائلات.. وهو تحفة معمارية.. فتحمسنا
وانطلقنا صوب الحي عبر طرقات ضيقة ملتوية. أمام باب عملاق أشبه بأبواب الحصون
القديمة توقفنا. ودلف الصديق إلى داخل المنزل لينبئ أهله بقدومنا. وما هي إلا
لحظات حتى كان في استقبالنا جده المسن.. الذي صحبنا في ترحاب إلى الداخل.. باحة
رحبة متسعة تتوسطها نافورة موشاة بنمنمات الفسيفساء. تحفها أعمدة النور عتيقة
الطراز أشبه ما تكون بالمسارج القديمة. تلتف حول هذه الأعمدة فروع لنبات أخضر
متسلق في نعومة. تطل على هذه الباحة من الجوانب الأربعة بنايات البيت بالنوافذ
والشناشيل عربية الطراز والتي تنم عن رقة في الذوق ودقة في الصنع..
صحبنا السيد (نيسار أحمد ديسي) عميد الدار إلى حجرات البيت..
وأخذ يروي لنا عن تاريخه الذي يمتد إلى قرون خمسة.. أخبرنا أن جده سافر إلى دمشق
ومصر وذهب إلى الحجاز.. وكان يعرف العربية ويحب أشعارها.. وأشار إلى سقف الحجرة
وكانت تؤكد كلماته أبيات مخطوطة في السقف بإتقان بديع، أبيات تحوي تضمينا من شعر
أبي العتاهية:
ألا يا ساكن القصر
المعلمي… ستدفن عن قريب في
التراب
هنا ملك يصيح بكل
يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب
بيشاور الحديثة
عبر خط فاصل للسكة الحديد بنيت بيشاور الحديثة وهي أشبه
بالثكنات العسكرية التي بناها الإنجليز قديما.. وبيشاور الجديدة غاية في النظام
والنظافة. طرقاتها واسعة على جانبيها تقوم الأشجار الباسقة ويغمرها عبق الأعشاب
والزهور. وتوجد فيها حديقتان كبيرتان. الأولى مغولية قديمة ومن الغريب أن اسمها
(خالد بن الوليد)..!! والأخرى اسمها (شاهي باج) وتقع في الشمال الشرقي من المدينة.
زفي هذه المنطقة الحديثة ويسمونها (سادرا) يوجد بيت الحاكم والفنادق الحديثة
والجامعة (كلية إدواردز) نسبة إلى الملك إدواردز ملك إنجلترا. والجامعة تحتل مساحة
شاسعة أشبه بحديقة ممتدة تتوسطها المباني المميزة الطابع بالطوب الأحمر ولا يزيد
ارتفاعها على طابقين. وقد بنيت على النمط الإنجليزي عام 1915 وتضم 12 قسما مختلفا
من فروع العلم كالحقوق والطب والهندسة. وهي مدينة مستقلة بملاعبها الخضراء ومطاعم
القسم الداخلي منها. والبنك الخاص بالطلبة. تخترقها شوارع فسيحة ظليلة ووارفة. ومنذ
63 عاما ألحق بالكلية معهد إسلامي أطلق عليه الكلية الإسلامية يهتم بعلوم الدين
الإسلامي والفقه والشرع والتاريخ الإسلامي. وهو ذو طابع معماري مميز عن بقية أقسام
الجامعة وكلياتها. في بيشاور تسود لغات أربع: هي البنجابية والبشتو والبلوشية
وأخيرا الأوردية وتكاد تكون اللغة الوطنية وهي خليط من اللغات الفارسية والتركية
والعربية وتكتب بالحروف العربية. وزي الرجال هنا هو السروال الفضفاض وفوقه الجلباب
المسبغ الطويل. أما أزياء النساء فهي تقليدية ولكل إقليم إضافاته على الزي الأصلي
وهو (البنجابي). أما عن المناخ فإن فبراير ومارس هما أجمل الشهور.. وهما الربيع
هنا.. وديسمبر ويناير هما أشد الشهور قسوة وبرودة.
وعلى بعد خمسة عشر ميلا من بيشاور يقع سد وارساك الضخم الذي
يبلغ طوله 228 مترا وقد بني على نهر كابول ما بين عامي 1955 و 1960 ويلعب هذا السد
دورا مهما سواء في تخزين كمية كبيرة من الماء تكفي لري أراضي بيشاور الزراعية كما
يولد 000،160 كيلوات من الكهرباء.. هذا السد ووفرة المحاصيل الزراعية التي لمسناها
في الأسواق وشاهدنا العربات محملة بها في أكثر من طريق، أرست في داخلنا اقتناعا
بازدهار المنطقة زراعيا
مركز وسط آسيا
تقع قرية (مهزارا) على بعد 25 كيلو مترا من بيشاور. وهي قريبة
من الحدود الأفغانية، وفي الطريق إليها، لحضور حفل زفاف دعينا إليه، حلم زميلنا
المصور في التقاط صورة لوجه نسائي.. وهل هناك أحفل من الأعراس بتلك الوجوه
الجميلة.. الفرحة؟. عبرنا نهر (حاجي زيي) إلى القرية.. ووجدنا خوانا كبيرا تظله
مظلة واسعة جلس تحتها المهنئون.. كانوا جميعا من الرجال.. ابتسم الزميل المصور..
وجلسنا إلى أصحاب الدعوة نهنئهم ونتحاور معهم.. واحتفالات الزفاف تقام لسبعة أيام.
في اليوم الثالث يذهب أقارب الزوج من الرجال إلى منزل العروس. وفي اليوم السابع
يحضر أهل العروس الزوجة إلى منزل الزوج بعد أن تكون النسوة من أهله سبقن إليها
للتهنئة في دارها.. ويعود الركب كله إلى منزل الزوج..
عن الحياة الاجتماعية في هذه القرية، وفي بيشاور كلها. قال لي
د. أزمات أحمد مدير مركز آسيا الوسطى:
بيشاور مجتمع محافظ. كل شخص فيه يعرف الآخر. الأسر هنا
مترابطة جدا. والعادات القديمة لها جلالها احترامها. الصغير هنا يخدم الكبير. لا
ننادي بعضنا بألقاب معينة. ولكن الصغير ينادي الكبير ب (لا لا) ومعناها (السيد).
لنا عادة يومية أن نأخذ الشاي معا في العصر. حتى هنا في المركز في فترة الاستراحة.
نجتمع كلنا من المدير حتى عامل النظافة ونأخذ الشاي معا. ثم نغسل الأكواب معا.
وليس لدينا أي تمايز. ويحترم بعضنا البعض لا على الأساس الوظيفي أو المكانة
الرسمية. ولكن للسن وللتجربة وأعتقد أن شيئا من هذا يحدث عند العرب. والمرأة هنا
كائن محترم جدا. حتى لو حدث نزاع بين قبيلتين وخرج واحد من أفراد إحدى القبيلتين
بصحبة امرأة فإنه آمن لا يعترضه أحد أو يؤذيه ما دامت في صحبته سيدة. لدينا هنا
أكثر من مائة مركز تعمل به سيدات ولم يحدث قط أي حادث مشين من اغتصاب أو خطف كما
نقرأ ونسمع عن مجتمعات أخرى.. أجابني د. أزمات حين سألته عن هذا المركز الذي
يديره: هذا المركز يتبع مراكز تعليم آسيا الوسطى. في عام 1974 أقيمت خمسة مراكز في
باكستان للاهتمام بدراسة شئون المناطق الحيوية من العالم.. فهناك مركز يهتم بأمور
الشرق الأوسط، وآخر في كراتشي يهتم بأوربا الغربية، وثالث في لاهور يعنى بجنوب شرق
آسيا، وفي إسلام أباد مركز يهتم بأمريكا وكندا.. هذه المراكز أقيمت بمساعدة
البرلمان. وهي تمد الدارسين بالمعلومات الكافية عن هذه المناطق.
وهناك أبحاث ومنح لطلبة الجامعات. وكل مركز من هذه المراكز
يتخذ موقعه داخل الحرم الجامعي لكل جامعة. فالجامعة هي الممول له. وهي التي تعنى
بشئونه. أما عن المركز الذي أديره فهو مخصص للدراسات الاجتماعية والسياسية لوسط
آسيا. ولم أدع الفرصة تفلت.. فسألته.. ماذا عن مشكلة كشمير وتأثيرها على مجتمعكم
هنا..؟ ولم تكن إجابته مختلفة عما سمعت.. قال: من وجهة نظري يجب حل المشكلة
سلميا.. وإذا كانت الهند بهذا العناد والتصميم الذي يجعلها تنفق المال والجهد
وتسخر كل طاقاتها من أجل أن تحتوي وتأخذ كشمير.. فلتأخذها.. (هكذا ببساطة..!!)
وأعتقد وهذا رأيي الشخصي أننا لسنا بحاجة إلى كشمير.. فهناك آلاف المناطق
والمساحات الشاسعة التي تحتاج جهدنا واهتمامنا ورعايتنا.. أما عن تأثير المشكلة
علينا فهو غير مباشر.. لقد كان تأثير هجرة الأفغان إلينا أشد فعالية من تأثير
تقسيم كشمير علينا.
هالني الرد وتلك الجرأة والهدوء الذي حدثني بهما.. العالم كله
يخشى أن ينفجر الموقف هناك.. وهم على حافة البركان الخامد - إلى حين - يعالجون الأمور
بسكينة المطمئن في هدوء روحي مثير.. قلت لنفسي من أين جاءهم هذا السلام..؟
ولم أعجب فتلك صورة شاعرهم الكبير وأحد مؤسسي دولتهم محمد
إقبال وكلمات أشعاره الروحية الوادعة تتردد في ذاكرتي: إنني أحلق عاليا بحيث إنه
على ذري الفلك الأعلى. تحوم حولي مخلوقات الضياء آلاف المرات..
ومرجع ضياء الإنسان الفاني إنما إلى قدرته على الابتكار..
أما القمر والنجوم فليس لها إلا أن تكرر ما سبق أن فعلته.
ــــــــــ
مجلة العربي الكويتية 407
s1a3b7i7ha13777
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق