الأربعاء، 2 أكتوبر 2024

في بلاد الله هوانغ شان جبل يحكمه الصنوبر وتسكنه الملائكة

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

في بلاد الله

هوانغ شان جبل يحكمه الصنوبر وتسكنه الملائكة

لم تكن مجرد رحلة استكشافية أو سياحية، كان الأمر يشبه رحلة معراج أو مهمة فضائية؛ إذ تنقطع العلاقة تمامًا بكل ما يجري بالأسفل. إنها رحلة تأمّل وتبصُّر بالطبيعة الساحرة، التي لا تزال تبهرنا بجمال الأرض وروعة تضاريسها.
في البداية، كنتُ أسرد على صديقي - بشيء من التباهي – الأماكن المهمة التي زرتها في الصين، مثل السور العظيم، المدينة المحرّمة، أبراج شنغهاي، أنهار ومرتفعات جويلين، بحيرة هانزو، و... وإذ به مقاطعًا كلامي ومفككًا متسلسلة الأماكن هذه، يفاجئني بسؤال مباشر وواضح: هل زرت الجبل الأصفر؟ أجبته بسرعة: لا. علّق بثقة كبيرة: مَن لَم يزُر الجبل الأصفر لم يزر الصين. نعم، فقد أجابني بمقولة صينية شائعة، قادتني إلى الجبل الأصفر. لم يمر وقت طويل على هذا الحوار مع أحد الأصدقاء الصينيين، حتى كانت غابات الخيزران تحيينا على طول المسار السريع إلى مقاطعة آنخوي، حيث ترسو هناك إحدى أكثر السلاسل الجبلية تفردًا على مستوى الكوكب وهي محمية هوانغ شان. كان الطريق طويلًا من مقر إقامتنا في جييجيانغ إلى وجهتنا في آنخوي، لكن أهمية الرحلة ومرح الرفقة شكّلا حائط صد أمام أي شعور بالسأم أو الإرهاق. وهناك، وعلى حيّز يتعدى 160 كيلومترًا مربعًا، رأينا الصنوبر يتسيّد كحاكم للمنطقة لا شريك له، يتجذّر على أعتى الصخور صلابة، ولا يعترف بأي تسلّط لتداول الفصول وتغيّر المناخ، تهزأُ خضرته السرمدية، ببياض الشتاء واصفرار الخريف.
Huangshan تعني بالصينية: الجبل الأصفر، وحينما تقرر زيارة المكان ستجد الجبل، لكنك لن تجد الاصفرار، باستثناء قبعات العديد من الزوار. وما إن وصلت حتى انطلقت تساؤلاتي الاستنكارية، لا شيء أصفر هنا، الفضاء كله مزيج من خضرة الصنوبر وبياض السحب ودكانة أحجار الجرانيت، ثمّة جبل، لكن أين اصفراره؟! 

قمة النور واللوتس جاءتني الإجابة ممزوجة بابتسامة متسلقة اصطادت سؤالي، كما لو أنها كانت بانتظاره، لتجيب عليّ: Yuanmingheishan (اسمه الأصلي الجبل الأسود)، وتتبعها ترجمة بالإنجليزية تنطقها بصعوبة: Black mountain، ثم تسترسل في شرح كيف أنه ظل محتفظًا باسمه الأصلي لقرون، وتخبرنا بأن تسميته كانت في عهد أسرة تشين، أول أسرة أسست امبراطورية ووحدت البلاد (221 - 208 ق. م)، حتى عهد أسرة تانغ (618 - 907 م)، حيث أمر الامبراطور شيوان تسونغ  بتغيير التسمية إلى «هوانغ شان» (الجبل الأصفر)، استنادًا إلى الأسطورة القائلة بأن جد الأمة الصينية (دي الأصفر) قد بنى فلسفته على قمم هذا الجبل المهيب، وهو من أعطى القمم الثلاث الأكثر شهرة أسماءها التي ما تزال تسمّى بها إلى اليوم «جوانغمينغ» التي تعني قمة النور، «تياندو» التي تعني قمة السماء، «ليانخوا» التي تعني قمة زهرة اللوتس، وأساس هذه المسميات الثلاثة مرتبط بالمعتقدات الروحية لحقبة الامبراطور دي الأصفر، وحتى هذه اللحظة ما يزال الصينيون يعبّرون عن هذه القمم بمسمى «مدن الملائكة الثلاث»، إذ يسود اعتقاد بأن الملائكة تسكن هذه القمم؛ لعلو ارتفاعها، ومهابة إطلالاتها. ظلت هذه الفتاة المتسلقة تستعرض أمامنا ثروتها المعرفية عن الجبل بنرجسية واضحة واعتزاز بالغ، تمامًا كما كانت تستعرض لياقتها الجسمانية العالية، إذ تتقافز على منحدرات التسلق هذه برشاقة وخفة غزال من السهوب المنغولية العجيبة. نصّعّد في السماء، يرافقنا مستقبلونا الثلاثة؛ الصنوبر والجرانيت وينابيع المياه، وتنضم السحب مرافقةً رابعة لرحلة يلزمها قدر كافٍ من الشجاعة، ونسبة صفر في المئة من فوبيا الأماكن المرتفعة. 

الجبل يرتدي زيًّا رسميًّا تصغر في عينيك كل أشكال الموضة بتصميماتها وتناسق ألوانها، عندما ترى هذا الزي الرسمي الذي ترتديه هذه الكتل الجرانيتية الفائقة العلو والضخامة، زي موحد ترتديه السلسلة الجبلية هنا، تبدو على هيئة عباءة خضراء وعمامة بيضاء.. يا لجمالها المتقن! . لماذا لم نقرأ عن هذه الأماكن من قبل؟ أين مَن مرّوا من هنا؟ وأين أحاديثهم المتناقلة عن هذا المكان؟ هل كانت أعينهم مغلقة؟! أم أن روح المكان هنا تتلبس أرواح الرحالة وتتوغل في أعماقهم إلى درجة يصعب إخراجها وعرضها بأي طريقة؟ عصا التسلق وقناني الماء ولياقة بدنية أورثتني إياها سني الصبا في قريتي النائية، وشغف بالمكان يكاد لفرطه أن يحوّلني ومعي كل الرفاق إلى وعول تسهل تحت أطرافها الانحدارات، وتصغر في عينيها عشرات الآلاف من درجات السلالم الصخرية التي تمنحك وأنت تصعدها شعور رائد الفضاء. هنا لا شيء يوازي انبهارك بكرم الطبيعة وفرادة المكان إلا الشعور بعظمة ما أنجزه الصينيون لترويض هذه الجيولوجيا العنيدة، ما قام به الصينيون هنا يشكّل إعجازًا يفوق ما فعله أجدادهم حينما بنوا الجدار العظيم. إننا نسير على درب منحوت في قلب منحدر صخري أملس ينتصب عموديًا بزاوية 90 درجة، وعلى ارتفاع يتعدى 5800 قدم!

فكر هندسي مبدع
ووسط جعجعة عشرات الأسئلة تتذبذب في رأسك: كيف وصلوا إلى هنا؟ ما الوسيلة التي اتبعوها لإيصال كل هذا القدر من الحديد والإسمنت إلى هذا العلو؟ ما الذي ثبّت هذا العمود على هذا المنحدر؟...، تستنفد كل الخيارات الممكنة للإجابة عن الأسئلة التي نبتت فجأة، إلا أن خيارًا واحدًا يتبقى في متناول المنطق: فعلها الإنسان الصيني بفكر هندسي مبدع، وجهد جسدي بحت، وقبلهما بإرادة تتفوق في صلابتها على جرانيت هوانغ شان، تشعر بالزهو وأنت ترى البرهنة العملية على صحة استنتاجك هذا، إذ تسمع صيحات عامل صيني يحمل عشرات الكيلوجرامات من الحديد على شكل أنابيب يتعدى طولها الـ 4 أمتار، صيحاته تحذيرية لكي تتاح له أولوية العبور رأسيًا في طريقه نحو السماء. على مدى قرون، تشكّلت بنية معلّقة هائلة من الممرات والأنفاق والجسور، مكنت حجاج هوانغ شان من أداء طوافَي القدوم والوداع في كل رحلة حج يؤدونها هنا. عملية خلق ممرات في بيئة كهذه استغرقت أجيالًا متعاقبة وميزانيات هائلة، وما زال العمل على تطويع الجبل مستمرًا حتى اللحظة. حضور على قائمة «يونسكو» على قمة ليانهوا وبداخل المتحف الذي يرصد شيئًا من تاريخ الجبل قابلنا إحدى القائمات على المتحف، وتدعى ينغ يوي، وقد أخبرتنا أنه على مدى الـ 200 عام المنصرمة لم تتوقف الإنشاءات على هذه السلسلة الجبلية، إذ تُنحت الممرات وتُحفر الأنفاق وتُبنى المحطات، و«في حين يستغرق بناء جسر أو حفر نفق بضعة أشهر على الأرض المستوية، فإنه قد يستغرق سنوات في تضاريس شديدة القسوة كهذه»، تقول يوي، وتضيف «لدى الصينيين مثل يقول: إن عزمت على نقل جبل من مكانه واجتهدت في ذلك، فيمكنك فعلها. لذا لم تشكل هذه الجغرافيا مستحيلًا أمام إرادة الإنسان الصيني». في قائمة التراث العالمي (يونسكو) يظهر سور الصين، ويليه هوانغ شان، وتصّنف «يونسكو» هذا الجبل كمعلَم (طبيعي – ثقافي)، مطلقةً عليه مصطلح الجبل الأكثر غرابة في الصين. 

«كوفيد 19» وتأثيره 
المعرفة العالمية بهذا المكان جاءت متأخرة جدًا، حتى أنه لم يُضف إلى قائمة التراث العالمي إلا في عام 1990 م، وإذا كانت الانحدارات المرعبة والارتفاعات الشاهقة في فيلم «أفتار» الذي أخرجه العالمي جيمس كاميرون، قد أذهلتكم أو جعلتكم تظنون أنها من الفضاء فعلًا، فيمكنكم تعديل معلوماتكم الآن؛ لأنّ جزءًا من الفيلم الشهير قد تم تصويره هنا. 
تتناوب المنعطفات والأنفاق والانحدارات على طول رحلة معراجنا هذه، وسواء اتجهت يمينًا نحو جوانغمينغ أو يسارًا نحو تياندو، فالممرات مزدحمة وأصوات المتسلقين تتداخل، خالقة نوتة غير مقصودة يسبح ترددها في هذا الزمكان المدهش. 
في البدء ظننا أننا سنكون برفقة عشرات آخرين فقط أو بضع مئات ربما، ساردين عددًا من العوامل، ومتناوبين على ذكرها: 
- «كوفيد 19»، وتأثيره المحوري في تحجيم السياحة الداخلية والخارجية. 
- اليوم الاثنين، وهو اليوم الأول من الدوام الأسبوعي في الصين. 
- بدء الدوام الدراسي للفصل الأول في المدارس والجامعات في يوم ترحالنا هذا. 
كلها عوامل منطقية وحقيقية، إلا أنها تبخرت في زحام عشرات الآلاف من الأقدام التي تتحسس مواضعها صعودًا وهبوطًا. 
علت الدهشة محيّا فريقنا، وحدقات أعيننا وعدسات جوالاتنا ترصد هذا السيل البشري من ذوي القبعات الملونة والأكف الشانقة لعصي التسلق، إلا أن هذه الدهشة تلاشت حينما سألنا دين شو (وهو موظف سابق لدى إدارة إصدار تذاكر الدخول للجبل الأصفر) عن المعدل السنوي لزوار هوانغ شان، ليجيب: 
«أكثر من 15 مليون سائح سنويًا يرتادون الجبل الأصفر»، مضيفًا: «نسبة 80 في المئة من هذا العدد يفضلون زيارة المحمية خلال يوم واحد فقط، مستعينين بعربات النقل الجوي (التليفريك)، ومفضلين عدم المبيت على الجبل؛ نظرًا للتكلفة المرتفعة لإيجارات الفنادق داخل المحمية».
- ماذا إذا قررنا زيارة هوانغ شان كمستكشفين، سيرًا على الأقدام؟ 
- يلزمكم 6 أيام حدًّا أدنى للقيام بالمهمة على أكمل وجه. 

تعال نفتح جبلًا!
نواصل المسير، إلا أن العدد المهول للزوار، وسعر تذاكر الدخول المرتفع نسبيًا – إذ يبلغ سعر التذكرة الواحدة 230 يوان صيني – هذان العاملان يدفعان بالزبير، وهو أحد رفاق المهمة، لإنشاء معادلة رياضية تتضمن حاصل ضرب قيمة التذكرة × متوسط عدد الزوار الذي توقّعه لهذا اليوم، ليخلص إلى رقم يحوي خانات مليونية كمحصلة يومية لعائد السياحة في الجبل، وفي اللحظة التي ظهر الرقم على شاشة الآلة الحاسبة لجهازه الخلوي، التفت إلى صديقه قائلًا: «تعال نفتح جبلًا»! وهي جملة تعني: ما رأيك أن نبحث عن جبل لنحوله إلى مشروع استثماري؟ في إشارة إلى أن هكذا مشروع يمكنه أن يدر أرباحًا فلكية، كانت العبارة مضحكة ومرحة حدّ أنها أشاعت الكثير من البهجة في نفوسنا، بما عزز روح الإصرار التي كانت قد بدأت بالانخفاض تحت تأثير الإرهاق الذي بدأ يسري في أجسامنا كنتيجة طبيعية لساعات طويلة من الصعود. 
كل إطلالة هنا تمنحك شعورًا أعمق بجمال الحياة، تتنفس بشره، وتشعر بأن رئتيك قد اكتسبتا حجمًا إضافيًا سببه كل هذا العبق النقي.  
الجبال حولها أقزام
يمر طيف الفلاسفة والشعراء والرسامين الذين أسهم هذا الجبل في توفير الكثير من متطلبات إنتاجهم، أتذكر دوفو، الشاعر العظيم الذي نبذه القصر وخلّده الكوخ، أتذكره وأحاكي وقفته على هذا الجبل، وأردد قصيدته التي قالها هنا واصفًا هوانغ شان: خُضرة شامخة تمتد بلا نهاية . مبدع الكون أودع فيه كل ما في الطبيعة من جمال .حاجزًا يقف بين الظلمات والنور 
السحب المتراقصة حوله .تشرح الصدور بمرورها .أحدق بحدّة إلى السماء الواسعة .فألمح الطيور عائدة إلى أعشاشها 
لا بدّ أن أعتلي قمته .لأرى الجبال حولها أقزامًا
ودوفو هذا هو أعظم شعراء الصين وأكثرهم إنتاجًا، له ديوان مطبوع يحوي أكثر من 1400 قصيدة، وقصيدة الجبل الأصفر هذه، موقّعة باسمه في عام 751م. من كلمات مرشد سياحي سمعته يقولها لأحد الأفواج، وقد أدركتها فيما بعد، ومفادها كم أننا محظوظون بطقس نموذجي لهذا اليوم، إذ بالمرشد ذاته يعلو صوته وينادي أعضاء فوجه قائلًا: 
«استغلوا الفرصة والتقطوا صورًا تذكارية، إنكم محظوظون بهكذا طقس، ففي أغلب الأيام يصعب عليكم ذلك، فإن أعجبكم منظر على هذه القمم، وأردتم التقاط صورة له، فإن عليكم الدخول في سباق مع الغيوم، والغيمة غالبًا ستسبقك وتلتحف المنظر». كلماته هذه استفزت فيّ رغبة في أسر كل المناظر، فاستللت جهازي الخلوي وبدأت في سجن اللحظات وتجميدها. يتبادل الصينيون عبارات التشجيع، ويبتسم العائدون في وجوه الصاعدين، وتلتقط أذناي عبارة «أمامكم نحو 70 دقيقة فقط»، فأدرك أننا اقتربنا من ليانهوا فانغ، القمة الأعلى في المحمية، حيث سنكون على ارتفاع 6115 قدمًا، ومع هذا الاقتراب تزداد درجة انحدار السلالم الصخرية، ويتضاعف الجهد المطلوب لبلوغ القمة، ومع الاقتراب أكثر، ترنو إلى الأعلى لترى تعرجًا لمئات الأمتار، وقد اكتظ بطابور الحجاج الراغبين في معانقة الذروة، يتحرك الطابور ببطء، وتتعالى أصوات المتقاطرين لتحثّ المتكدسين على القمة بأن يعجّلوا المغادرة؛ حتى تتاح الفرصة لكل هذا الكم من الزوار لبلوغها، وبجوار نصب القمة الأعلى ستلاحظ أن عوامل مشتركة يتقاسمها جميع الموجودين هنا، وهي الإرهاق، والشعور بالارتياح، والرغبة في توثيق اللحظة، وإضافة إلى العناصر الثلاثة هذه سينتابك شجن لذيذ وأنت تستمع لمجموعة من الصينيات يرددن ألحانًا لا تفهم كلماتها، لكنك تدرك أنها تنتمي إلى تلك الألحان العريقة، ألحان الزراعة والحب والحرب. 

الشجرة المضيافة 
بعد القمة يجب عليك عدم المغادرة والعودة؛ لأن هناك شيئًا آخر، ومن الضروري جدًا أن تتطلع عليه، فما عليك إلا أن تتجه إلى بقعة تكافئ في الأهمية ليانهوا فانغ، بل وتتجاوزها، إنها رقعة وجود الشجرة، والشجرة هذه هي صنوبرة يتجاوز عمرها 1000 عام، وتتخذها مقاطعة آنخوي رمزًا لها، وتتعدى رمزيتها مقاطعة آنخوي، لتشكل أحد أهم الرموز القومية للأمة الصينية ككل، ولهذا نرى صورتها مطبوعة على العملة الصينية فئة الـ 5 يوان، وتسمى هذه الصنوبرة بـ «الشجرة المضيافة» أو «صنوبرة الترحيب».
إن أساس هذه التسمية قائم على البناء الطبيعي لشكل الشجرة، حيث يمتد أكبر فروعها مشكلًا علامة الترحيب الشهيرة في الصين، يمكنك ملاحظة ذلك بسهولة وأنت ترى العديد من الفتيات يقمن بمحاكاة حركة الشجرة، مولّدات بذلك سؤالًا: هل حركة الترحيب هذه مصدرها الشجرة؟ أم أن الشجرة هي التي اتخذت شكل حركة الترحيب هذه؟ لا تبحث عن إجابة هنا، فلا أحد متفرغ لفلسفاتك هذه، الجميع هنا إما تبهره الإطلالة، أو يتأمل الصنوبرة، أو يتربص بمكان نموذجي يقتنص فيه صورة توثق وصوله إلى الشجرة العتيقة. 

هوانغ شان... حج وحُب
إذا كانت باريس قد حدّت من تعليق أقفال الحب على جسورها، فإن آلاف أقفال الحب هنا ما زالت منتشرة على قمم هوانغ شان، وتمثّل منطقة الشجرة أكثر الأماكن كثافة بروابط العشاق هذه، هنا يضغط الحبيبان في اللحظة ذاتها على رباط غرامهما، ثم يلقيان مفاتيح هذا القفل في الهوة السحيقة لهذه المرتفعات. وعلى منحدرات الجبل وأنفاقه تكتشف أن زواره ليسوا جميعًا سياحًا، وإن كانت الفئة السياحية هي الأعظم، إلا أن هناك نسبة مؤثرة تزور الجبل كطقس تعبّدي يمنحها روحانية لا تمنحها الأماكن الأدنى! ولذلك تظهر أسطح المعابد على الجبل كما لو كانت نابتة مثل الصنوبر، ولهذا السبب تحديدًا عليك ألا تستغرب إذا وجدت عجوزًا في الثمانين تحرص على بلوغ قمم الجبل الأصفر، فهذه المسنة لن تكون سوى حاجّة حريصة على أداء المناسك، سواء متكئة على عصاها أو محمولة على كرسي صنع من الخيزران، يحملها عليه عمال برتبة موظفي نقل، وحينما تسأل: لماذا الخيزران بالتحديد؟ يأتيك الجواب: لأنه أكثر متانة ومرونة وأخف وزنًا.
يقترب النهار من نهايته، ويصفو الجو قبيل الأصيل، فتكشف المحمية عن مناظر لم تكن قد حَلِمتَ برؤيتها حتى في أقصى درجات خيالك خصوبة، وتبدأ رحلة الهبوط مراقبًا مواضع أقدامك جيدًا، ومتوقفًا كثيرًا لتشهد الشمس وهي في طريقها للغروب تمسِّد قممًا صخرية برتها عوامل التعرية على مدى ملايين السنين، بما يظهرها على هيئات متعددة، تظهر لخيالك الطفولي أحيانًا على شكل رؤوس حيوانات وأحيانًا رماح وأخرى أسماك، وتواصل الهبوط بجسد أنهكه الصعود، وبروح أترعتها الطبيعة، تهبط بجسد جندي بُعيد المعركة وبروح صوفي أتمّ للتو حضرته.
نكمل رحلتنا في الجبل الأسطوري ونعود وقد قبضنا قبضة من أثر «دي الأصفر»، نعود وقد أقمنا في حضرة الصنوبر، وصادقنا الجرانيت، وعانقنا السحب

مجلة العربي الكويتية  743








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق