الأربعاء، 30 أكتوبر 2024

في بلاد المسلمين بيشاور : كشمير

 صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إخوَتِي أَخَوَاتِي

في بلاد المسلمين بيشاور : كشمير

كشمير التي تعني (الزعفران) في اللغة السنسكريتية، وهو زهرة بنفسجية اللون طابت رائحة ومذاقا.. تغني بها الشعراء، وانتظر العامة أن تجف سيقانها الحمراء فيستعملوها في تلوين طعامهم وتحسين مذاقه.. كشمير تلك.. هي أيضا اللغم الموقوت المقتسم بين شعبي الهند وباكستان..، وشبح الحرب الجاثم على هذه البقعة من الأرض التي شهدت منذ تقسيم القارة الهندية ثلاث حروب طاحنة.. وربما - وفي أي وقت - تشهد رابعة ضروسا تعب الدماء..

في الطريق إلى (بيشاور) أهم المدن التي تطل على وادي كشمير. كانت خيوط كثيرة تتشابك وتتعقد وكان لا بد من متابعة أطرافها إلى نهاياتها. وقادتنا هذه المتابعة إلى جذور المشكلة التي تركها الاستعمار تتوهج حمما في أحضان الدولتين. لقد بدأت الأزمة قبل 15 أغسطس 1947. تاريخ تقسيم شبه القارة الهندية بين الهند والباكستان. وكان على ولاية كشمير، مثل بقية ولايات شبه القارة الهندية، أن تقرر إلى أي الدولتين تنضم. كان التقسيم قد اقتضى - قبل ذلك - منح الهند شريطا ضيقا من الأرض التي تلي حدود كشمير، بداية لزرع وجود هندي فيها. وماطل حاكم كشمير (هري سنج) الذي يدين بالولاء للهند في إصدار قرار الانضمام إلى الباكستان. وتحرك لورد مونباتن الحاكم الإنجليزي لدومنيون الهند يستعجل قرار أمير الولاية (هري سنج) وراوغه الأمير- بالطبع بإيعاز هندي - وحين قابل الحاكم الإنجليزي رئيس وزراء كشمير أعرب له الأخير عن رغبة سكان الولاية بأسرهم في الانضمام إلى الباكستان وحذره من العواقب التي قد تترتب إذا حدث خلاف هذا. وجاء الموعد في 15 أغسطس 1947 دون أن يفصح المهراجا (هري سنج) عن قراره بالانضمام إلى أي من الدولتين. غير أنه عقد اتفاقا مع حكومة الباكستان بإبقاء الوضع في كشمير كما كان عليه في ظل الاستعمار البريطاني. وبموجب هذا الاتفاق أصبحت الحكومة الباكستانية تمثل كشمير ديبلوماسيا ومسئولة عن أمنها عسكريا. كان الاتفاق، في ظاهره، خطوة على طريق انضمام كشمير إلى الباكستان. كان هذا هو المعلن والظاهر. لكن الأمير (هري سنج) كان في باطنه يضمر شيئا آخر..!!

الخيوط والمؤامرة

اندلعت الثورة في كشمير تتعجل قرار الانضمام إلى باكستان. فأرسل (هري سنج) جيشه وجحافل من المتطوعين (الهندوس) فاستباحوا مدينة (بونج) معقل الثورة، والقرى التي حولها وقتلوا 270 ألف مسلم!! وفر عشرات الألوف إلى الحدود الباكستانية يستنجدون برجال القبائل في المنطقة. وشن رجال القبائل الباكستانية هجوما مضادا كاسحا استطاعوا أن يحرروا خلاله ثلث كشمير وهو المسمى الآن ب (أزاد كشمير) أو كشمير المحررة. وفر الأمير (هري سنج) إلى سريناجار) في الجزء الواقع تحت السيطرة الهندية. ومن هناك كتب إلى اللورد مونباتن يطلب انضمام كشمير إلى الهند!! وتلقفت (دلهي) الكرة.. فسارعت بإرسال مندوب رسمي يحمل طلب الانضمام. وسرعان ما وقعه الأمير، وأقرت الهند انضمام كشمير إليها بعد أن أضافت لطلب الانضمام مادة مسكنة ومهدئة للوضع المضطرب، تقول: (على أن يستفتى شعب كشمير، في المستقبل، حول تقرير مصيره..) وتعهد نهرو آنذاك في خطابه إلى رئيس وزراء الباكستان: أن جيوشه ستنسحب من كشمير فور استتباب الأمن فيها.. في لقاء بين محمد علي جناح مؤسس باكستان واللورد مونباتن، واعتذر عن عدم حضوره البانديت نهرو، عرض محمد علي جناح اقتراحات محددة لحل النزاع ووقف حالة الحرب في كشمير وكانت المقترحات تقضي بإنذار القوات المتحاربة بالكف عن القتال خلال 48 ساعة وإلا تدخلت قوات باكستانية - هندية مشتركة لوقف القتال. كما تنص المقترحات على انسحاب القوات الهندية وقوات القبائل الباكستانية من كشمير. وإجراء استفتاء عاجل - تحت إشراف الدولتين - لتقرير المصير. ووعد اللورد مونباتن بالرد على المقترحات فور عودته إلى (دلهي). كان ذلك في لاهور (29 أكتوبر 1947).. لكن الرد ضل الطريق فلم يصل إلى الحكومة الباكستانية حتى اليوم..!!

بيشاور القديمة

رائحة الفواكه واللحم المشوي، عبق التاريخ ودخان الطباق، قرقعة العجلات ونقرات الصناع المهرة، ورقصات حوافر الخيل، ضجيج البيع والشراء والمساومة، المنازل الأثرية والحارات الضيقة والبيوت التي يشد بعضها بعضا في إعياء أسبغه القدم عليها، والشناشيل والنوافذ التي تدلت منها أغصان خضراء.. أو جافة.. ذلك كله يقتحم عليك حواسك وأنت تنقل قدميك في بيشاور القديمة.. والمدينة القديمة سوق كبير.. ملتقى المسافرين والتجار، غبار السفر يعلو بعض الوجوه. قال مرافقنا: إن الحرب الأفغانية المستعرة ألقت بظلالها الكثيفة على بيشاور لكثرة المهاجرين الأفغان. وهم ينزلون إلى الأسواق ليبدأوا حياتهم الجديدة في سلام.. لقد جاءوا ومعهم حرفهم.. إن كثيرا من المعمرين والمسنين فروا بحياتهم من جحيم الحرب إلى بيشاور. ويستطيع أي زائر أن يميز هؤلاء الأفغان عن أبناء بيشاور من الوهلة الأولى.. النبيل والجميل هنا أن الباكستانيين استوعبوا - على فقرهم الاقتصادي - الوافد الجديد وتعاملوا معه برحابة صدر وخلق كريم.. ربما كان الإسلام بسماحته، وهو قوي الجذور هنا، هو المظلة الآمنة التي تفيأوا مبادئها. والسلام والحب والأمن سمة غالبة. والحياة الاجتماعية حميمة. فاللقاءات تبدأ دائما بالعناق والأحضان الصادقة. ولعل (روح السلام) التي ترفرف على العلاقات الإنسانية هنا. هي السبب وراء عدم إجابتي عن أي استفسار حول مشكلة كشمير طرحته على مسئول أو مواطن عادي.. كان بعضهم يغفل السؤال.. والبعض الآخر يرى حلا سلميا.. بل إن هناك شبه إجماع على أن تترك المشكلة للزمن.. فحل الخلاف بين الدولتين - الهند والباكستان - لن يتحقق إلا بنشوء جيل جديد لم ير مذابح ما بعد التقسيم.. ولم يشهد بدء الصراع الدامي حول كشمير..

.. بسلام آمنين..

ولعل سلام النفس الذي تلمسه في الباكستانيين كان عاملا في إطالة أعمارهم، الزائر لبيشاور يلاحظ زيادة نسبة المعمرين وكبار السن، وهم لا يركنون إلى زوايا منازلهم، إنما يساهمون في العمل الحرفي بنشاط ودأب، وينقلون خبراتهم ومهاراتهم إلى الأجيال اللاحقة.. وفي زيارتي لأول شارع في السوق لفت انتباهي كثرة عيادات صنع الأطقم البديلة للأسنان.. وهي منتشرة بكثرة في كل شارع - كما رأيت بعد ذلك - في البداية تعجبت.. ثم وجدت ذلك متسقا مع نسبة الزيادة الكبيرة في أعداد المسنين والمعمرين في هذا المجتمع المسالم.. وعلى الرغم من ذلك فان العين كثيرا ما تلتقط تلك الصورة للرجل في زيه التقليدي وقد تدلى من خصره سلاحه، الذي حمله فتوة وزهوا واعتدادا، ولا غرو في هذا، فهو ينحدر من سلالة قبائل ذادت ببسالة وكبرياء عن تراب الوطن. بل ليس متناقضا مع روح السلام السائدة أن تعد مدينة (دارا أدام خيل) التي تقع على بعد 26 ميلا جنوب بيشاور معقلا لصناعة السلاح.. حيث يعتبر كل منزل بها بمثابة - مصنع صغير للسلاح.. ولا ينزعج القارئ. فهي ليست ترسانة عصرية تعج بوسائل الدمار ومنتجاته، إنما السلاح هنا هو السلاح الشخصي والعادي.. والمدينة ، والأمر هكذا، تعد متحفا فولكلوريا لتطور وحفظ هذا النوع من الصناعة.. والصناعات التي تقدمها بيشاور مازالت تحمل الطابع التقليدي للمدينة.. صناعات جلدية ، من أحزمة وأحذية وحقائب، وصناعات نحاسية تتجلى فيها الدقة والمهارة. حرفيون يشبهون الصاغة منهمكون في صناعة الأواني والأطباق ، ويحلون ذلك بنمنمات دقيقة مبدعة. الأزياء الشعبية أيضا لها نصيب كبير من التفنن والإبداع. السوق لا يهدأ والتجارة قائمة. ومن كل صوب تقتحم خلاياك روائح الحناء والبهار والتوابل ، وترحل معها إلى الماضي حين قادت هذه الروائح حملات أوربا، وأسالت لعاب شركة الهند الشرقية، وبدأ سباق محموم في صراع لاقح بسعار الاستعمار وجشع الاستغلال.

البيع بالنقد... والأجل السياسي أيضا

يروي تاريخ تلك المنطقة أنه في عام 1846 أقدمت (بريطانيا العظمى) التي كانت تسيطر على معظم أنحاء الهند على بيع كشمير.. ولم تكن المنطقة ملكا لها.. باعتها نقدا إلى المهراجا غلاب سنج الذي أسبغت عليه حمايتها وكان من طائفة الدوجرا التي تنحدر من القبائل الهندوسية الوثنية. وكان المقابل.. أو الثمن 750 ألف جنيه إسترليني فقط.. مقابل كشمير بما فيها ومن فيها..!! بعد ذلك بمائة عام، يكرر التاريخ نفسه.. وفي عام 1947 تتواطأ إنجلترا ويتم بيع كشمير إلى الهند.. بيعا سياسيا هذه المرة..!! وفي يوليو 1948 أوفدت الأمم المتحدة لجنة للمساعي الحميدة لعلها تحل النزاع .. نجحت اللجنة، في أغسطس من السنة نفسها، في الحصول على موافقة الحكومتين الباكستانية والهندية على وقف القتال. وتحديد خط لوقف إطلاق النار. وانسحاب القوات المتحاربة إلى ما وراء جانبي الخط. وإجراء الاستفتاء المرتقب بين شعب كشمير لتقرير المصير. وتطبيقا لهذا القرار أصدرت كل من الهند وباكستان أوامرها بوقف القتال اعتبارا من أول يناير 1949 وحدد خط وقف إطلاق النار بعلاماته وأسلاكه الشائكة في 27 يوليو من السنة نفسها توطئة لحل نهائي للنزاع. لكن خط وقف إطلاق النار هذا.. مازال حتى الآن بعد أكثر من أربعين سنة هو خط الحدود المؤقتة بين: (أزاد كشمير الباكستانية) و (جامو وكشمير الهندية..).. وما زالت المشكلة جمرا تحت الرماد. توالت اللقاءات والاجتماعات.. من أمم متحدة إلى وزراء دول الكومنولث وشكلت لجان انبثقت عن لجان.. والمشكلة حية وقائمة.. وبقى الجزء يتوق إلى التواصل مع الكل.. ثلث كشمير الباكستانية ويسكنه أربعة ملايين يهفو إلى ثلثيها المستكين في قبضة الهند القوية.. حيث اثنا عشر مليون مواطن 85 في المائة منهم مسلمون. عليهم وعلى الأقلية المسلمة في الهند أن يتحملوا وزر تدهور العلاقات مع باكستان.. وعلى الأقلية الهندوكية في الباكستان أن يصيبها الشيء نفسه.. حذوك النعل بالنعل!! إن باكستان ترى أن كشمير (خط الحياة لباكستان) هكذا صرح رئيسها الأسبق ضياء الحق. ولكن الهند كما جاء في تصريحات مسئوليها ومنهم د. جاجندر أجادكار الذي شغل منصب وزير العدل في إحدى الحكومات السابقة والذي يقول في كتابه (كشمير.. مراجعة للماضي..وتشوف للمستقبل).. "إن كشمير رمز الهند وأن انضمام جامو وكشمير للهند جاء نتيجة مشروعة للإرادة الحرة للمهراجا هري سنج أمير كشمير وممارسته لسلطاته الدستورية وهذا العمل سياسي وشرعي غير مشروط، نهائي لا يمكن تغييره..". وتغرب شمس الإمبراطورية البريطانية وتبقى جرائمها الاستعمارية نزيفا حادا من المشكلات الدينية والعرقية في بؤر الصراع التي خلفتها في كشمير وفلسطين وفي أكثر من مكان في العالم شاهدا على بشاعة وجرم المستعمر.

بيشه ور: الإنسان والمهارة

.. ليست التضاريس السياسية وحدها هي ما يشد الذهن ويجذب العين إلى هناك.. إنها أرض المفارقات الطبيعية. السهول المنسبطة التي تحاكي سرائر أهلها. والجبال المفعمة بالأسرار التي تمتد بين الأرض والسماء. تكلم عنها هيرودوت قبل 450 عاما من ميلاد السيد المسيح، ورصد فيها "مخلوقات تشبه النمل وهي تدب في بعض أنحاء الهند الشمالية، وهذا النمل يشبه الثعلب أو الكلاب الصغيرة!!". تحت أقدام هذه الجبال الأعجوبة يرتمي وادي كشمير.. إنه (جنة الله في الأرض) على حد تعبير الإمبراطور (جهان جير). وفي جزء من هذا الوادي السعيد، بين عبق التاريخ وعبق الطبيعة تسترخي مدينة (بيشاور) في الشمال الشرقي من باكستان. تزهو باسمها المنحدر من اللغة السنسكريتية حيث نجد أصوله في الكلمة: (بوشي - بابورا) التي تعني (مدينة الزهور). ويبدو أن شهرتها تلك قد صاحبتها في حقب التاريخ المختلفة حتى أن الإمبراطور المغولي (بابور) الذي حكمها في النصف الأول في القرن السادس عشر تغنى في يومياته بزهورها وطبيعتها. كما تقول النصوص المحفوظة في متحف المدينة.. أقنعتنا الطبيعة والحضور القوي للزهور ورائحتها بأصول التسمية.. إلا أن السيد (سيربد شاه) مسئول الإعلام المرافق كانت لديه معلومة أخرى.. أخبرنا أن اسم (بيشاور) يتكون من مقطعين ويكتب هكذا: (بيشة ور) وتعني الإنسان والمهارة.. وأكدت المرئيات حولنا صدق هذه التسمية أيضا.. ففي كل الطرقات التي عبرناها - خاصة في المدينة القديمة - كان أرباب المهن والأيدي الصناع عاكفين بحرفية فائقة ودأب ملحوظ على الصناعات اليدوية والشعبية البسيطة.. أضاف مرافقنا: إنها سمة في (بيشه ور) أن تجد لكل إنسان حرفته أو مهنته التي يجيدها فضلا عن صفته الاجتماعية كموظف أو معلم مثلا. ومدينة (بيشاور) مدينة كبيرة تبدو طاعنة في السن.. فهي كما يقولون ممر لخمسة وعشرين قرنا، وكانت وما زالت بحكم موقعها على الحدود الباكستانية الشمالية مركزا تجاريا مهما ومعبرا للهجرات المؤقتة. هي مفترق طرق للتاريخ. حوصر جيش الإسكندر الأكبر في شمال شرق بيشاور لمدة أربعين يوما.. كان ذلك عام 327 ق.م. ومر بها اليونانيون والفرس والأتراك والمنغوليون. وفيها وحولها تنتشر القبائل التي تشكل أكبر مجتمع قبلي في العالم ومهمتها حماية الحدود الباكستانية - الأفغانية. حيث تقع بيشاور على مقربة من ممر خيبر الذي يعد من أهم المزارات السياحية. كما أنه شريان التواصل مع أفغانستان ويقع الممر في مرتفعات سليمان. وقد يتسع هذا الممر ليصل إلى ميل كامل في اتساعه، ويضيق في بعض المناطق ليصل اتساعه إلى 16 مترا فقط.. وهو يبدأ من حصن "جامرود" على بعد 18 كيلو مترا من بيشاور ويمتد عبر حدود باكستان لمسافة 58 كيلو مترا. كان طبيعيا، وموقع المدينة - كما أسلفنا - في مهب الإغارات والغزوات والهجرات، أن تتم حمايته بالحصون والأسرار. والزائر لبيشاور لا بد أن تستوقفه بقايا هذا التاريخ ورموزه الممثلة في الحصن الأشم الرابض على أكبر تلالها. والذي وقفنا أمامه مشدوهين لضخامته وروعة تصميمه.. وجاء صوت مرافقنا هامسا وعيناه تغوصان في ذاكرة التاريخ:

بقايا الحصون.. بقايا التاريخ

"إلى منتصف الخمسينيات كانت بيشاور محاطة بسور كبير يتصدى للإغارة والغزو. وكانت به ست عشرة بوابة. وهذا الحصن اسمه (بال حصار) وهو كما ترون حصن جهم.. وليس مطلوبا في الحصون أن نبتسم مرحبة بالفاتحين.. إنه يقع على طريق روالبندي وممر خيبر. بناه الإمبراطور المغولي (بابور) في الفترة من عام 1526- 1530. وقد تم تجديده عن طريق حاكم السيخ في بيشاور (هاري سنج نلقا) عام 1830 تحت إشراف مهندسين فرنسيين..".

هذا ما تفضل به مرافقنا من معلومات، وهي تتسم بالدقة التاريخية، أما ما لم يقله لنا وعرفناه عن طريق (نيسار جيل) أحد الطلبة المثقفين من أهل المدينة، والذي تحمس لمهمتنا ورافقنا يومين في جولاتنا، ما أضافه من لمسة إنسانية على تاريخ هذا السور حيث قال: "لعل من أشهر البوابات تلك التي كانت تسمى (كابولي جيت) أي البوابة الكابولية، التي لم يبق منها سوى اسمها الآن.. وكانت تقع على رأس الطريق المؤدي إلى ممر خيبر وكابول.. وكانت تحمل اسما آخر هو (قيسي خواني بازار) وتعني شارع الحكائين المشهورين. ذلك أن الروايات والحكايات والمسامرة، كانت خير ما يقدم إلى المسافر، بعد عناء الرحلة، مع أقداح الشاي الساخن ذي النكهة المميزة الطازجة، ذلك كله في الخانات التي يؤمها المسافرون عند هذه البوابة التي رحلت في غياهب الماضي". وبدأت رحلتنا مع رفيقنا الجديد، والذي عرف الكثير، مقتربا بنا من روح المدينة لنفض بعض أسرارها المستعصية.

مجتمع الرجل

السوق.. وهو مجال لاجتذاب البشر بأنواعهم وأجناسهم، وملتقى البيع والشراء والمساومة والانتقاء، لم يفلح، ولم نفلح نحن في مهمة اكتشاف وجه امرأة سافر.. حتى في أشد الأماكن اجتذابا للنساء وهي محال بيع أدوات الزينة والثياب.. وعلى الرغم من كثرة الازدحام لن تجد وجها نسويا سافرا إلا في إحدى هذه الحالات: إما أجنبية سائحة، أو صبية صغيرة لم تخجل بعد!!.. أو عجوز مسنة لم يترك بها الزمن ما ينتهبه الفضول بعيون البشر.. أما أن ترى فتاة جميلة أو امرأة في مقتبل العمر تعكس لك ملمحا نسويا أو رؤية لنشاط نصف المجتمع الإنساني.. فدون ذلك النجوم..!!

قد تجد امرأة بها مسحة من جمال وبقايا حسن دارس.. تفترش الرصيف.. سافرة.. تبيع بعض اللعب والزينة للصغار.. وتعجب لجرأتها.. ويزول العجب عندما تعرف أنها مهاجرة أفغانية خرجت إلى السوق.. وما يشغلها لقمة العيش وليس الذود عن جمال ذابل!!

إذن.. فهو مجتمع الرجل..

أكد ذلك مرافقنا الشاب حين لاحظ ما يعانيه زميلنا المصور لاقتناص ملمح من وجه نسائي.. ما إن يسفر حتى يختفي بأسرع من ومض (الفلاش)، قال: "إننا مجتمع محافظ.. ولا تسفر المرأة عن وجهها إلا أمام ذويها.." رمقه زميلنا المصور بنظرة ذات مغزى.. ووضع الغطاء فوق العدسة.. صامتا............

عبر طرقات وحوار ضيقة اكتظت بمحلات الصاغة وتجار الذهب، ودكاكين العاديات القديمة، وهي كثيرة الانتشار، كثيرا ما تقع عينا الزائر على هذه النوعية من المحلات يتصدرها وجه متغضن لشيخ مسن تتهدل لحيته بشعر أشيب، يقوم بنظم عملات معدنية قديمة في عقد.. وقد ازدحمت أركان وحوائط المحل ببقايا أسلحة، ونقود قديمة، وأسمال لأزياء فولكلورية، وآلات موسيقية تهدلت أوتارها، وأشياء أخر يرجع عمرها إلى مئات السنين.. ويتفرس الرائي في وجه البائع وينقل عينيه إلى الأشياء المبيعة ويتساءل: أيهما الأقدم؟؟!!

.. اجتزنا السوق إلى ميدان الساعة.. وقريبا منه تقع تحفة معمارية باذخة.. إنه جامع (مشتاق) أو (جامع محبات خان) وهو اسم بانيه الذي شيده عام 1670 عندما كان حاكما على بيشاور تحت حكم الإمبراطور المغولي (شاه جهان). وهو يحتل مساحة كبيرة وبه مدرسة لتعليم القرآن. ولا يخلو في أي وقت من المتعبدين الذين يؤدون الصلاة. أو من التلاميذ الذين يفترشون الأرض لتلاوة القرآن.. وفي شارع (خيبر بازار) أحد شوارع المدينة يتوقف مرافقنا الشاب ويعانق صديقا له.. ويدور حوار باللغة الأوردية، لم نفهم منه شيئا بالطبع.. ولكن الصديق حيانا بحماس حين قدمنا له مرافقنا الشاب بزهو وافتخار.. ودعانا الصديق لزيارته في منزله.. وهمس لنا المرافق: إن بيته عمره خمسمائة عام وتسكنه سبع عائلات.. وهو تحفة معمارية.. فتحمسنا وانطلقنا صوب الحي عبر طرقات ضيقة ملتوية. أمام باب عملاق أشبه بأبواب الحصون القديمة توقفنا. ودلف الصديق إلى داخل المنزل لينبئ أهله بقدومنا. وما هي إلا لحظات حتى كان في استقبالنا جده المسن.. الذي صحبنا في ترحاب إلى الداخل.. باحة رحبة متسعة تتوسطها نافورة موشاة بنمنمات الفسيفساء. تحفها أعمدة النور عتيقة الطراز أشبه ما تكون بالمسارج القديمة. تلتف حول هذه الأعمدة فروع لنبات أخضر متسلق في نعومة. تطل على هذه الباحة من الجوانب الأربعة بنايات البيت بالنوافذ والشناشيل عربية الطراز والتي تنم عن رقة في الذوق ودقة في الصنع..

صحبنا السيد (نيسار أحمد ديسي) عميد الدار إلى حجرات البيت.. وأخذ يروي لنا عن تاريخه الذي يمتد إلى قرون خمسة.. أخبرنا أن جده سافر إلى دمشق ومصر وذهب إلى الحجاز.. وكان يعرف العربية ويحب أشعارها.. وأشار إلى سقف الحجرة وكانت تؤكد كلماته أبيات مخطوطة في السقف بإتقان بديع، أبيات تحوي تضمينا من شعر أبي العتاهية:

ألا يا ساكن القصر المعلميستدفن عن قريب في التراب

هنا ملك يصيح بكل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب

بيشاور الحديثة

عبر خط فاصل للسكة الحديد بنيت بيشاور الحديثة وهي أشبه بالثكنات العسكرية التي بناها الإنجليز قديما.. وبيشاور الجديدة غاية في النظام والنظافة. طرقاتها واسعة على جانبيها تقوم الأشجار الباسقة ويغمرها عبق الأعشاب والزهور. وتوجد فيها حديقتان كبيرتان. الأولى مغولية قديمة ومن الغريب أن اسمها (خالد بن الوليد)..!! والأخرى اسمها (شاهي باج) وتقع في الشمال الشرقي من المدينة. زفي هذه المنطقة الحديثة ويسمونها (سادرا) يوجد بيت الحاكم والفنادق الحديثة والجامعة (كلية إدواردز) نسبة إلى الملك إدواردز ملك إنجلترا. والجامعة تحتل مساحة شاسعة أشبه بحديقة ممتدة تتوسطها المباني المميزة الطابع بالطوب الأحمر ولا يزيد ارتفاعها على طابقين. وقد بنيت على النمط الإنجليزي عام 1915 وتضم 12 قسما مختلفا من فروع العلم كالحقوق والطب والهندسة. وهي مدينة مستقلة بملاعبها الخضراء ومطاعم القسم الداخلي منها. والبنك الخاص بالطلبة. تخترقها شوارع فسيحة ظليلة ووارفة. ومنذ 63 عاما ألحق بالكلية معهد إسلامي أطلق عليه الكلية الإسلامية يهتم بعلوم الدين الإسلامي والفقه والشرع والتاريخ الإسلامي. وهو ذو طابع معماري مميز عن بقية أقسام الجامعة وكلياتها. في بيشاور تسود لغات أربع: هي البنجابية والبشتو والبلوشية وأخيرا الأوردية وتكاد تكون اللغة الوطنية وهي خليط من اللغات الفارسية والتركية والعربية وتكتب بالحروف العربية. وزي الرجال هنا هو السروال الفضفاض وفوقه الجلباب المسبغ الطويل. أما أزياء النساء فهي تقليدية ولكل إقليم إضافاته على الزي الأصلي وهو (البنجابي). أما عن المناخ فإن فبراير ومارس هما أجمل الشهور.. وهما الربيع هنا.. وديسمبر ويناير هما أشد الشهور قسوة وبرودة.

وعلى بعد خمسة عشر ميلا من بيشاور يقع سد وارساك الضخم الذي يبلغ طوله 228 مترا وقد بني على نهر كابول ما بين عامي 1955 و 1960 ويلعب هذا السد دورا مهما سواء في تخزين كمية كبيرة من الماء تكفي لري أراضي بيشاور الزراعية كما يولد 000،160 كيلوات من الكهرباء.. هذا السد ووفرة المحاصيل الزراعية التي لمسناها في الأسواق وشاهدنا العربات محملة بها في أكثر من طريق، أرست في داخلنا اقتناعا بازدهار المنطقة زراعيا

مركز وسط آسيا

تقع قرية (مهزارا) على بعد 25 كيلو مترا من بيشاور. وهي قريبة من الحدود الأفغانية، وفي الطريق إليها، لحضور حفل زفاف دعينا إليه، حلم زميلنا المصور في التقاط صورة لوجه نسائي.. وهل هناك أحفل من الأعراس بتلك الوجوه الجميلة.. الفرحة؟. عبرنا نهر (حاجي زيي) إلى القرية.. ووجدنا خوانا كبيرا تظله مظلة واسعة جلس تحتها المهنئون.. كانوا جميعا من الرجال.. ابتسم الزميل المصور.. وجلسنا إلى أصحاب الدعوة نهنئهم ونتحاور معهم.. واحتفالات الزفاف تقام لسبعة أيام. في اليوم الثالث يذهب أقارب الزوج من الرجال إلى منزل العروس. وفي اليوم السابع يحضر أهل العروس الزوجة إلى منزل الزوج بعد أن تكون النسوة من أهله سبقن إليها للتهنئة في دارها.. ويعود الركب كله إلى منزل الزوج..

عن الحياة الاجتماعية في هذه القرية، وفي بيشاور كلها. قال لي د. أزمات أحمد مدير مركز آسيا الوسطى:

بيشاور مجتمع محافظ. كل شخص فيه يعرف الآخر. الأسر هنا مترابطة جدا. والعادات القديمة لها جلالها احترامها. الصغير هنا يخدم الكبير. لا ننادي بعضنا بألقاب معينة. ولكن الصغير ينادي الكبير ب (لا لا) ومعناها (السيد). لنا عادة يومية أن نأخذ الشاي معا في العصر. حتى هنا في المركز في فترة الاستراحة. نجتمع كلنا من المدير حتى عامل النظافة ونأخذ الشاي معا. ثم نغسل الأكواب معا. وليس لدينا أي تمايز. ويحترم بعضنا البعض لا على الأساس الوظيفي أو المكانة الرسمية. ولكن للسن وللتجربة وأعتقد أن شيئا من هذا يحدث عند العرب. والمرأة هنا كائن محترم جدا. حتى لو حدث نزاع بين قبيلتين وخرج واحد من أفراد إحدى القبيلتين بصحبة امرأة فإنه آمن لا يعترضه أحد أو يؤذيه ما دامت في صحبته سيدة. لدينا هنا أكثر من مائة مركز تعمل به سيدات ولم يحدث قط أي حادث مشين من اغتصاب أو خطف كما نقرأ ونسمع عن مجتمعات أخرى.. أجابني د. أزمات حين سألته عن هذا المركز الذي يديره: هذا المركز يتبع مراكز تعليم آسيا الوسطى. في عام 1974 أقيمت خمسة مراكز في باكستان للاهتمام بدراسة شئون المناطق الحيوية من العالم.. فهناك مركز يهتم بأمور الشرق الأوسط، وآخر في كراتشي يهتم بأوربا الغربية، وثالث في لاهور يعنى بجنوب شرق آسيا، وفي إسلام أباد مركز يهتم بأمريكا وكندا.. هذه المراكز أقيمت بمساعدة البرلمان. وهي تمد الدارسين بالمعلومات الكافية عن هذه المناطق.

وهناك أبحاث ومنح لطلبة الجامعات. وكل مركز من هذه المراكز يتخذ موقعه داخل الحرم الجامعي لكل جامعة. فالجامعة هي الممول له. وهي التي تعنى بشئونه. أما عن المركز الذي أديره فهو مخصص للدراسات الاجتماعية والسياسية لوسط آسيا. ولم أدع الفرصة تفلت.. فسألته.. ماذا عن مشكلة كشمير وتأثيرها على مجتمعكم هنا..؟ ولم تكن إجابته مختلفة عما سمعت.. قال: من وجهة نظري يجب حل المشكلة سلميا.. وإذا كانت الهند بهذا العناد والتصميم الذي يجعلها تنفق المال والجهد وتسخر كل طاقاتها من أجل أن تحتوي وتأخذ كشمير.. فلتأخذها.. (هكذا ببساطة..!!) وأعتقد وهذا رأيي الشخصي أننا لسنا بحاجة إلى كشمير.. فهناك آلاف المناطق والمساحات الشاسعة التي تحتاج جهدنا واهتمامنا ورعايتنا.. أما عن تأثير المشكلة علينا فهو غير مباشر.. لقد كان تأثير هجرة الأفغان إلينا أشد فعالية من تأثير تقسيم كشمير علينا.

هالني الرد وتلك الجرأة والهدوء الذي حدثني بهما.. العالم كله يخشى أن ينفجر الموقف هناك.. وهم على حافة البركان الخامد - إلى حين - يعالجون الأمور بسكينة المطمئن في هدوء روحي مثير.. قلت لنفسي من أين جاءهم هذا السلام..؟

ولم أعجب فتلك صورة شاعرهم الكبير وأحد مؤسسي دولتهم محمد إقبال وكلمات أشعاره الروحية الوادعة تتردد في ذاكرتي: إنني أحلق عاليا بحيث إنه على ذري الفلك الأعلى. تحوم حولي مخلوقات الضياء آلاف المرات..

ومرجع ضياء الإنسان الفاني إنما إلى قدرته على الابتكار..

أما القمر والنجوم فليس لها إلا أن تكرر ما سبق أن فعلته.

ــــــــــ

مجلة العربي الكويتية 407

 

 




s1a3b7i7ha13777

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2024

لئيم يفخر بلؤمه ! واللؤم من أسرار البلاء الذي نحن فيه ومن حياة السلف لنا مثل

 صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إخوَتِي أَخَوَاتِي

لئيم يفخر بلؤمه ! واللؤم من أسرار البلاء الذي نحن فيه ومن حياة السلف لنا مثل

ونحن تعيش في عصر يفخر اللئيم بلؤمه ومن اللؤم أن تفخر بالأذى سواء كان بالكلمة أو بالفعل ، واللَّئيمُ: الَّذِي يجمعَ معَ البخلِ مَهانةَ النّفسِ والأصلِ. حدّث أبو القاسم عبد الله بن محمد بن مهرويه قال: كانت بيني وبين أبي جعفر بن قديدة، عداوة، وكنت قد تبت من التصرّف مع السلطان. فتقلّد ضياع السيدة أمّ المقتدر، وفيها ما يجاور ضيعتي، فآذاني أذى شديدا، وقصد إخراب ضيعتي، وإبطال جاهي، فصبرت عليه.  فقبض يوما على أكّار لي، فصفعه صفعا عظيما، فأنفذت إليه كاتبا كان يكتب لي يعرف بأبي القاسم ، ليعاتبه، ويستكفّه، ويأخذ الأكّار، فتلقّى الرجل بكلام غليظ. فعاد إليّ، فقال: إنه راغب في آخذاك فخذ حذرك ، فقلت: ما الخبر؟ فعرّفني ما جرى عليه. ففكّرت، فلم أر لحسم عداوته سوى ضمان ضعتي للسيدة أم المقتدر وأنفذت الكتاب مع فيج قاصد. فحين نفذ، اغتممت، وقلت: ضياع لا أعرف حاصلها على الحقيقة، لم حملت نفسي على هذا؟ وكان احتمال عداوة الرجل، أيسر من هذا. وطرحت نفسي مفكّرا، وأنا بين النائم واليقظان، حتى رأيت، كأنّ رجلا شيخا، أبيض الرأس واللحية، بزيّ القضاة، قد دخل إليّ، وعليه طيلسان أزرق، وقلنسوة، وخفّ أحمر. فقال: ما الذي يغمّك من هذا الأمر؟ ستربح في أوّل سنة من هذا الضمان، على ما زدته، عشرة آلاف دينار، وتخسر في الثانية، عشرة، وتخرج في الثالثة بغير ربح ولا خسران، ويكون تعبك بإزاء اشتفائك من عدوّك. فانتبهت متعجّبا، وسألت: هل دخل إليّ أحد؟ فقالوا: لا، فقويت نفسي قليلا. وجاءني الرد من بغداد بالقبول فلما كان بعد أيّام، كنت جالسا مع عامل الأهواز، على داره بشاطىء دجيل  فإذا بعسكر عظيم قد طلع من جانب المأمونيّة. فارتاع، وظن أنّ صارفا قد ورد، وأنفذ من سأل عن الخبر، فعاد، وقال: فلان، عامل السيّدة أم المقتدر يسأل عن أبي علان . فقلت: أنا هو يا سيّدي. ولم يكن يعرفني فأقامني من موضعي، ورفعني فوق الجماعة، وتحيّر العامل، ومن حضر. وقال له: أريد ابن قديدة، فأنفذ إليه، فاستدعاه. فحين حضر قيّده، وقال لي: يا أبا القاسم تسلّمه. وأقبلت الجماعة تمازحني. فقلت: هو أحوجني إلى هذا. قال: فتسلّمته، وقمت إلى داري. وعبر عامل السيّدة، وعقد عليّ الضمان لضعتي من غد، وأطلقت ابن قديدة بعد شهور إلى داره، وقد ركبه دين ثقيل، وباع شيئا من ضيعته، وانكسر جاهه، وانخزلت نفسه. ونظرت في الضمان، وتصرّمت السنة، فربحت عشرة آلاف دينار. فقلت: قد جاء ما قال الشيخ في المنام، فأثبتّها ولم أدخلها في دخلي، ولا في خرجي. فلما كانت السنة الثانية، قعدت بي الأسعار، فخسرت ذلك القدر، فأدّيته بعينه في الخسران. فلما كانت السنة الثالثة، خرجت رأسا برأس، ما خسرت ولا ربحت شيئا. وطالبني بتجديد الضمان على الزيادة، وعمل على التأوّل عليها من ابن قديدة. وأنفذ في اشخاصي، خادما من كبار خدم السيّدة، فخفت وأنزلت الخادم، وهاديته، ولا طفته، وحملت إليه خمسة آلاف درهم فاستعظمها، فقلت له: إنّ ذيلي طويل ، وأريد أن أصلح أمري، ثم أخرج، فتمهلني أسبوعا، وتدعني أخلو في منزلي، وأصلح ما أحتاج إليه، ثم أخرج معك، فمكّنني من ذلك. فقلت لإخوتي، وأصهاري، وكتّابي: ليدعه كلّ واحد منكم يوما، له، ولغلمانه، وأسبابه، وامنعوهم من معرفة خبري، وشاغلوهم ففعلوا ذلك. وخرجت أنا تحت الليل بمرقّعة  ، راكبا حمارا، ومعي غلامان من غلماني، ودليل، وليس معي شيء من الدنيا، إلّا سفاتج بخمسة آلاف دينار. وسرت واشتغل الخادم بالدعوات، فما عرف خبري إلّا وأنا بواسط ، فقامت قيامته، وانحدر في طريق الماء، فوصل إلى الأبلّة  ، وقد قاربت أنا بغداد، ثم دخلتها متخفّيا، وطرحت نفسي على أبي المنذر النعمان ابن عبد الله ، وكانت لي به حرمة وصحبة، أيّام تقلّده الأهواز، وتصرّفي معه، فلقي بي أبا الحسن، عليّ بن عيسى، وهو إذ ذاك الوزير ، وعرّفه محلّي. فقال لي: قد كنت أحبّ أن أراك، لما يبلغني من حسن صناعتك، وطرح إليّ أعمالا، فعملتها بحضرته، وأعجبته صناعتي، ولزمته أيّاما، وخبري منستر عن كاتب السيّدة، ثم خاطب الوزير في أمريّ ، وخوطبت السيّدة. فقالت: لا أقرّر أمره، ليصير إلى ديواني. فقال لي: امض وأنا من ورائك، ولا تخف. فمضيت، فاعتقلوني، فراسلتهم في أمري ،وقرّر الأمر على صلح ثلاثة آلاف دينار، وطالبني عليّ بن عيسى، بالتصرّف معه، فعرّفته توبتي منه، وإنّي إنّما ضمنت هذا الضمان، لضرورة، وشرحت له الخبر، فأعفاني. فرجعت إلى الأهواز، وقد مضت السنون على العداوة بيني وبين ابن قديدة، وكتب السلطان ببيع ضياعه بالأهواز  ، وكان الناس يشترون ما يغلّ في سنة وأكثر، بنصف ثمنه، فاشتريت ما كان فيه غناي، ودخل إليّ ابن قديدة . فقمت إليه، وسلّمت عليه، فعاتبني، وخضع لي. فقلت: ما تريد؟ فقال: تخفّف عنّي من التقسيط، وتعاونني بمالك، فو الله، ما معي ما أؤدّيه. فخفّفت عنه منه شيئا يسيرا، وأقرضته ثلاثين ألف درهم، وكتبت بها عليه ، وأشهدت فيها جماعة عدول البلد، وتركتها في بيتي، فلم أفكّر في المال سنين، ورجعت أدسّ المكاره، والمغارم، والمحن عليه، وهو يذوب، وينقص في كل يوم. فلما علمت أنّه قد بلغ آخر أمره، طالبته بالدين، فاستتر عنّي في منزله. فاستعديت عليه إلى القاضي أبي القاسم عليّ بن محمد التنوخيّ ، واعتلّ علّة صعبة، فجاءتني أمّه، وكانت بيني وبينها قرابة، فسألتني إطلاقه، وبكت، فلم أفعل. إلى أن بلغني أنّه في النزع، وجاءتني تبكي، فرحمتها، فأطلقته لها، بعد أن كفلته منها. فمات بعد ثلاثة أيام، وابتعت بالمال ضياعا من ضياعه.

ـــــــــــــــــــــ

نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة (1/ 211)

 

أكار : من يحرث الأرض

فيج : رسول

مرقعة : ثياب بالية




الأحد، 27 أكتوبر 2024

من حلم سيدنا معاوية رضي الله عنه كتب ابن الزبير إلى معاوية

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إخوَتِي أَخَوَاتِي

من حلم سيدنا معاوية رضي الله عنه

كتب ابن الزبير إلى معاوية: قد علمت أني صاحب الدار، وأني الخليفة بعد عثمان، ولأفعلن ولأفعلن. فدعا معاوية يزيد، فقال: ما ترى؟ قال: أرى -والله- أن لو كنت أنت وهذا على السواء، ما كان ينبغي أن تقبل منه هذا. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إليه خيلاً؛ قال: ويحك، إني لا أصل إلى ابن الزبير حتى أقتل دونه رجالاً من قريشٍ؛ فكم ترى أن أرسل إليه؟ قال: أربعين ألف فارسٍ. قال: فكم ترى يكفيها لمخاليها؟ قال: أربعون ألف مخلاةً، لكل مخلاةٍ درهمٌ، فذلك أربعون ألف درهمٍ. فقال معاوية: يا غلام، اكتب إلى ابن الزبير: إن أمير المؤمنين قد بعث إليك ثلاثين ألف درهمٍ، تستعين بها على أمرك.

قال: فكتب ابن الزبير: وصلت أمير المؤمنين رحمٌ. فقال معاوية ليزيد: ربحنا على ابن الزبير عشرة آلاف درهمٍ في المخالي.

ـــــــــــــــــ

حلم معاوية لابن أبي الدنيا (ص: 27)

 

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024

حين يحكم المنطق ومن حياة سلفنا نتعلم

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

حين يحكم المنطق

ومن حياة سلفنا نتعلم

ربما كانت العجلة من أسباب البلاء الذي نحن فيه فالْمَنْطِقِ يعني التَّمهُّل والتوقُّر والتَّثَبُّت من الأمر ، والغضب فقد الاتزان وغلبة الهذيان في الكلام ، كمت أن التمهّل والتأنّي من أوصاف العقل.

قال عبد الله بن مالك : كنت أتولى الشرطة للمهدي وكان يبعث إليّ في ندماء الهادي ومغنّيه أني أضربهم وأحبسهم صيانة له عنهم، فبعث الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه عنهم، فلا ألتفتُ إلى ذلك وأمضي إلى ما يأمر به المهدي، فلما ولي الهادي الخلافة أيقنت بالتلف فبعث إليّ يوماً فدخلت عليه متكفّناً متحنّطاً، فإذا هو على كرسي والنطع والسيف بين يديه، فسلّمت فقال: لا سلم الله عليك! تذكر يوم بعثت إليك في أمر الحرّاني لما أمر أمير المؤمنين، رضي الله عنه، بضربه فلم تجبني في فلان وفي فلان، وجعل يعدّ ندماءه، ولم يلتفت إلى قولي؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أيسرك أن ولّيتني ما ولاني أبوك وأمرتني بأمر فبعث إليّ بعض بنيك بأمر يخالف أمرك فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك وكذا لأبيك وأخيك. فاستدناني فقبّلت يده وأمر بخُلع فصبّت عليّ وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه فامض راشداً.

وجميل قول الشاعرة الجاهلية سعدى الأسدية

حَبيبي لا تَعجل لِتفهم حجّتي       كَفاني ما بي من بلاءٍ ومن جهدِ

يا رب عليك بمن تسبب في بلائنا

يا رب فرج عن الشام وأهل الشام

ـــــــــــــ

المحاسن والمساوئ  - إبراهيم بن محمد البيهقي (ص: 85)

الاثنين، 21 أكتوبر 2024

الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور فِي سَاحَةِ القضاء وصور من تاريخ العدالة في تاريخنا

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

وِجْهَةُ نَظَرٍ مَعَرِّية

الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور فِي سَاحَةِ القضاء

وصور من تاريخ العدالة في تاريخنا

العدالة: في اللغة: الاستقامة، وفي الشريعة: عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينًا.

وقد قيل أعطني قضاء أعطك دولة. وعدل قائم خير من عطاء دائم.

قال نمير المدني : قَدِم علينا أمير المؤمنين المنصور المدينة، ومحمد بن عمران الطلحي يتولى القضاء بها وأنا كاتبه، فحضر جماعة من الجَمالَة واستعدوه على أمير المؤمنين المنصور في شيء ذكروه، فأمرني أن أَكْتُبَ إلى المنصور بالحضور معهم أو إنصافهم. فقلت له : أعفني من ذلك فإنه يعرفُ خطي . فقال : اكتب. فكتبتُ وختمتُ . فقال : والله ما يَمْضِي به غيرك، فمضيتُ به إلى الربيع حاجبه، وجعلتُ أعتذر إليه ، فقال : لا بأس عليك! ودخل بالكتاب على المنصور. ثم خرج الربيع، فقال للناس - وقد حضر وجوه أهل المدينة والأشراف وغيرهم : إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: إني دُعِيتُ إلى مجلس الحكم، فلا أحد منكم يقوم إذا خرجت، ولا تبدؤوني بالسلام.

ثم خرج وبين يديه المسيب والربيع وأنا خلفه، وهو في إزار ورداء، فسلم على الناس، فما قام إليه أحد، ثم مضى حتى بدأ بقبر النبي ﷺ، فسلم عليه، ثم التفت، فلما رآه ابن عمران القاضي أطلق رداءه عن عاتقه، ثم اختبى به، ودعا بالخصوم وهم الجمالة، ثم دعا بالمنصور، فادعى عليه القوم، وقضى لهم عليه، ثم انصرف .

فلما دخل المنصور الدار قال للربيع : اذهب، فإذا قام القاضي من مجلسه فادعه. فلما دعاه ودخل على المنصور سلم عليه، فرد عليه السلام. وقال له : جزاك الله عن دينك وعن نبيك وعن حسبك، وعن خليفتك، أحسن الجزاء، قد أمرت لك بعشرة آلاف، صلة لك فاقبضها . فكانت عامة أموال محمد بن عمران من تلك الصلة .

يا رب عليك بمن تسبب في بلائنا

يا رب فرج عن الشام وأهل الشام

ــــــ

العقد الفريد للملك السعيد سالم محمد بن طلحة : ۱۷۰.

 

الجمالة أصحاب الجمال.

المسيب زهير




السبت، 19 أكتوبر 2024

الغيرة على نساء المسلمين كانت سبباً في فتح پلاد السند من مأثر الحجاج ابن يوسف الثقفي

 

s1a3b7i7ha13777

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

الغيرة على نساء المسلمين كانت سبباً في فتح پلاد السند

من مأثر الحجاج ابن يوسف الثقفي

تذكر كتب التاريخ أنه في سنة ٨٨ هـ حدث أن سفينة مسلمة كانت قادمة من جزيرة من بلاد "سيلان" عليها  نساء مسلمات وبينما كانت السفينة في طريقها إلى "البصرة" مارة  ببلاد السند  ، خرج قراصنة  واستولوا عليها . وعندئذٍ كتب  الحجاج  إلى ملك السند يطلب منه الإفراج عن النساء المسلمات والسفينة ، ولكنه رفض عنادًا للمسلمين . فقرر "الحجاج" فتح بلاد السند كلها ، وقد وقع اختياره على محمد بن القاسم الثقفي ليقود جيش المسلمين . وبالفعل خرج هذا القائد حتى وصل إلى الطاغية داهر وانتصر عليه وقام بتحرير الأسرى ، قال أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري: واستعمل الحجاج بعد مجاعة مُحَمَّد بْن هارون بْن ذراع النمري فأهدى إِلَى الحجاج في ولايته ملك جزيرة الياقوت نسوة ولدن في بلاده مسلمات ومات آباؤهن وكانوا تجارا فأراد التقرب بهن، فعرض للسفينة الَّتِي كنا فيها قوم من ميد الديبل في بوارج فأخذوا السفينة بما فيها فنادت امرأة منهن وكانت من بني يربوع يا حجاج، وبلغ الحجاج ذلك فقال: يا لبيك فأرسل إِلَى داهر يسأله تخلية النسوة. فقال: إنما أخذهن لصوص لا أقدر عليهم، فأغزى الحجاج عُبَيْد اللَّه بْن نبهان الديبل فقتل، فكتب إِلَى بديل بْن طهفة البجلي وهو بعمان يأمره أن يسير إِلَى الديبل، فلما لقيهم نفر به فرسه فأطاف به العدو فقتلوه وقال بعضهم قتله زط البدهة، قَالَ: وإنما سميت هَذِهِ الجزيرة جزيرة الياقوت لحسن وجوه نسائها، ثُمَّ ولى الحجاج مُحَمَّد بْن الْقَاسِم في أيام الوليد بْن عَبْد الملك فغزا السند، وعقد له عَلَى ثغر السند وضم إليه ستة آلاف من جند أهل الشام وخلقا من غيرهم وجهزه بكل ما احتاج إليه حَتَّى الخيوط والمال، فسار مُحَمَّد بْن الْقَاسِم ، واستعد داهر لملاقاته مستخف به لاه عنه ولقيه مُحَمَّد والمسلمون وهو عَلَى فيل وحوله الفيلة ومعه التكاكرة فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله وترجل داهر وقاتل فقتل عند المساء وانهزم المشركون فقتلهم المسلمون كيف شاءوا وكان الَّذِي قتله في رواية المدائني رجلا من بني كلاب وقال:

الخيل تشهد يوم داهر والقنا ... وَمُحَمَّد بْن الْقَاسِم بْن مُحَمَّد

أني فرجت الجمع غير معرد ... حَتَّى علوت عظيمهم بمهند

فتركته تحت العجاج مجدلا ... متعفر الخدين غير مؤسد

وعادات نساء المسلمين : ونظر الحجاج فإذا هُوَ قَدْ أنفق عَلَى مُحَمَّد بْن الْقَاسِم ستين ألف ألف ووجد ما حمل إليه عشرين ومائة ألف ألف، فقال: شفينا غيظنا وأدركنا ثأرنا وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر

ــــــ

فتوح البلدان (ص: 419)

الكامل في التاريخ (4/ 20)

الخميس، 17 أكتوبر 2024

شَذَرَات مِنْ حَيَاةِ الِإمَامُ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال الإمام الشافعيّ رضي الله عنه: «وليس من يكرم لنفسه

 s1a3b7i7ha13777

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة
إِخْوَتِي أَخَوَاتِي
شَذَرَات مِنْ حَيَاةِ الِإمَامُ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
قال الإمام الشافعيّ رضي الله عنه: «وليس من يكرم لنفسه كالذي يكرم لغيره» .
فلتعظّموه كلّ التعظيم وتنزلوه منزلة تليق بأهل الفضل والإفضال، وترفعوا له المقام وتحفظوا له المقال، ليعود محقّق الآمال مبلّغ المقاصد، ناشرا ألوية الثّناء والمحامد، مشمولا بجميل الصّلة والعائد؛ ونحن منتظرون ما يرد عنه من مكاتباته الكريمة بما وصل إليه من المنازل الحسنة.
صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (14/ 395)



الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

هذه أرضي وهذا وطني فيلكا.. الكويت جزيرة القوافل والتاريخ

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

هذه أرضي وهذا وطني

فيلكا..  الكويت جزيرة القوافل والتاريخ
عبر تاريخها الممتد إلى الحقب البعيدة, ساهمت جزيرة فيلكا الكويتية في صناعة الحضارة في بلاد الرافدين ووادي الهندوس. التجارة أم الأشياء: مقولة علمية فيها الكثير من الصحة والصواب. فالتجارة تعني التعارف والتبادل, الأخذ والعطاء, وبشكل طبيعي المساهمة بالتطور الإنساني المعرفي الذي يقوده بالتالي إلى التطور الحضاري وذلك من كل الجوانب المادية والتكنيكية والثقافية والدينية وإلخ... ولولا التجارة وطرقها ومحطاتها وناسها ومعتقداتها لما كان عندنا اليوم شيء اسمه حضارة بالمعنى الشمولي. والطرق التجارية الأشهر صاحبة الفضل الأكبر في نشوء وتطور حضارات كرتنا الأرضية هي للتذكير طريق الحرير الذي ربط الشرق بالغرب وطريق البخور الذي ربط الجنوب بالشمال. ومن الطرق المهمة التي ساهمت بشكل فعّال في تطور وازدهار حضارات جنوب بلاد الرافدين القديمة الدرب التجاري الذي كان مساره الشاطئ الغربي من الخليج العربي بمستوطناته المتعددة مثل جزيرة (فيلكا. و(فيلكا) هذه تعتبر من المعالم الأثرية المهمة جدا على طريق القوافل التجارية في العصور الغابرة في الخليج العربي, رغم مساحتها الصغيرة فقد كانت من المراكز والمعالم الأثرية المهمة في عصر حضارات بلاد الرافدين ووادي الهندوس - باكستان اليوم - أي عصور ما قبل الميلاد, وكان لها أيضا مكانة مميزة وخاصة في العصر الهيليني اليوناني. وهذا الدرب التجاري الطبيعي الذي كان يربط ما بين بلاد الرافدين وبلاد وادي الهندوس كانت همزة وصله وربطه مستوطنات وواحات شواطئ الخليج العربي, بالإضافة إلى مستوطنات شواطئ بحر العرب. هذا المسار - إلى جانب مسارات أخرى في الشرق والشمال والغرب - له أهمية تاريخية وحضارية خاصة بالنسبة لازدهار ونهضة وتطور حضارات بلاد الرافدين المشهورة والتي كانت جزيرة فيلكا إلى جانب المراكز الأخرى في الخليج تلعب دور الوسيط الواصل والفاعل بها. وكما هو معلوم ومعروف تعتبر منطقة بلاد الرافدين منطقة زراعية بالدرجة الأولى وهي بلاد تفتقر إلى جميع أنواع المعادن الضرورية والمهمة مثل: النحاس, القصدير, الفضة والذهب كذلك الأحجار الكريمة, وهذه الأشياء موجودة بكميات كبيرة - من الجهة الجنوبية لبلاد الرافدين - في منطقة الهند الطبيعية. ومن خلال المكتشفات الأثرية التي جرت في منطقة الرافدين ومنطقة وادي الهندوس توجد معلومات شبه كافية عن عمق وقوة العلاقة التجارية التي كانت سارية في الأزمان المذكورة بين هاتين المنطقتين الجغرافيتين. ومن باب التذكّر لا الحصر, فإن المحطات المهمة والمعروفة لهذا العصب التجاري المهم في تلك الحقب والعصور الماضية كانت: ميناء مدينة (أور) في جنوب بلاد الرافدين, وجزيرة فيلكا, وجزيرة البحرين, ونواحي شواطئ عُمان اليوم, التي كانت تدعى في تلك الفترة (ماجان) وشواطئ بحر العرب حتى مصب نهر الهندوس بالقرب من مدينة كراتشي اليوم), وأيضا مستوطنات رافدي نهر الهندوس كموقع مها نجارو المشهور. كانت فيلكا الجزيرة الصغيرة في الخليج العربي, مركزا دينيا ذات شأن عال وعلى الأرجح محجا مهما لمواطني شواطئ الخليج في الأزمان الغابرة. وفي تاريخ الكويت الحديث طورت وحُسنت الجزيرة وأصبحت بحق واحة سياحية ثقافية بكل معنى الكلمة. فقد أنشئ فيها ميناء اصطناعي صغير لاستقبال السفن الصغيرة بالإضافة إلى مجمع سياحي كبير في الطرف الجنوبي من الجزيرة يضم شققا مفروشة ومسابح ومطاعم وملاعب رياضية. و من الأماكن السياحية التي كان زائر الجزيرة يؤمها قبل غزو النظام الصدّامي في العراق للكويت عام 1990, مزار الخضر عليه السلام, موقع القرنية حيث يوجد حوض بناء مراكب وزوارق (الدو) التراثية, إلى جانب الشواهد والأوابد الأثرية في منطقتي سعد وسعيد, وأخيرا المجمع السياحي المذكور بكل مرافقه, مع الأسف الشديد تعرضت الجزيرة أثناء حرب تحرير الكويت لأضرار كبيرة وجسيمة, خاصة في مواقعها وشواهدها الأثرية, ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجزيرة تحت الإدارة العسكرية - أي منطقة محرمة - ومن حينها توقفت حركة الزوار إليها. (تسعى دولة الكويت الى تحويل الجزيرة الى منطقة سياحية وأثرية حاليا). وبالإمكان القول إن: فيلكا عاشت ثلاث نهضات تاريخية حضارية مميزة, اثنتان منهما في التاريخ القديم وواحدة في التاريخ الحديث: النهضة الأولى كانت كجزء من حضارة دلمون المعروفة الموغلة بالقدم, والثانية كجزء من إمبراطورية السلوقيين اليونانيين وعاصمتهم سلوقيا على نهر دجلة, وأخيرا في فترة نهضة دولة الكويت الحديثة. بواسطة قراءة ودراسة وتحليل المكتشفات واللقى الأثرية التي عثر عليها في الجزيرة, تعتبر فيلكا من المراكز والأماكن ذات الأهمية الكبيرة فيما يسمى - ويصطلح عليه اليوم - بحضارة دلمون المشهورة المؤرخة في عصور ما قبل الميلاد وذلك من الناحية التاريخية والثقافية والحضارية. ونتيجة التقنيات الأثرية العلمية - الأركيولجية - التي جرت في الجزيرة عثر على كمية كبيرة من اللقى والمخلفات والأوابد الأثرية التابعة لهذه الحضارة المذكورة مثل الفخار والأختام والنقوش وأشياء أخرى. وتسمية دلمون هذه مستقاة من الكتابات المسمارية السومرية والمقصود بها منطقة شواطئ الخليج العربي حتى مضيق هرمز.  وحسب المكتشفات الأثرية التي جرت حتى الآن في منطقة شواطئ الخليج تعتبر جزيرة البحرين اليوم  أول المعالم المهمة لهذه الحضارة. فيلكا الجزيرة لعبت دورا لا يستهان به في حقبة زمنية طويلة تعود بداياتها, حسب المعلومات الأثرية المكتشفة حتى الآن, إلى فترة عصر البرونز المبكر حوالي 2300 قبل الميلاد, واستمرت في فترات ازدهار وانحسار حتى انهيار الإمبراطورية البابلية/الكلدانية - سقوط مدينة بابل في عام 539ق.م. - على يد الفرس الأخمينيين. وبعد مائتي عام عادت الجزيرة مرة أخرى إلى الأضواء, وبدفع أكبر من السابق, وذلك في العهد السلوقي اليوناني, أي الفترة ما بين القرن الثالث ق.م. وعلى الأغلب حتى القرن الثاني بعد الميلاد. في هذه الحقبة التاريخية كانت الجزيرة معروفة باسم (إيكاروس), تيمّنا بإحدى جزر بحر إيجة غرب تركيا الحديثة. وفيلكا كانت على الأرجح الحد الثقافي والحضاري الفاصل ما بين حضارة دلمون الخليجية وحضارات بلاد الرافدين وذلك حسب اللقى والمخلفات الأثرية التي وجدت بكثرة في الجزيرة والتي كان أغلبها ذا صفة وطابع دلموني. ثم إن فيلكا: هي جزيرة صغيرة بالحجم ولكن كبيرة جدا بالمكتشفات الأثرية, تقع في شمال غربي الخليج العربي وتبعد فقط بضعة كيلومترات عن شاطئ الكويت وساعة بالمركب البحري. طولها بحدود اثني عشر كيلومترا وعرضها بحدود ستة كيلومترات, على الجزيرة أربعة أمكنة معروفة: مزار الخضر عليه السلام, بلدة السعد والسعيد وبلدة الزور, وقد كانت الجزيرة في الماضي دائما غنية بالمياه العذبة التي ساعدت على الاستيطان المبكر والمتواصل فيها, وذلك عبر حقب وعصور تاريخية مختلفة, ولكن صغر حجمها لم يسمح بكبر وتوسع المستوطنات عليها. ومن العام 1958 وإلى عدة أعوام متلاحقة في ستينيات القرن الماضي نقبت بعثة أثرية دانماركية عدة مواسم تنقيبية فيها, هذه المواسم كانت تمتد أحيانا إلى الشهرين في السنة الواحدة, والبعثة الأثرية المنقّبة كانت برئاسة عالم الآثار المشهور جيوفري بيبي, المتخصص في آثار حضارة وتاريخ وثقافة دلمون. وكانت المكتشفات الأثرية العائدة لحقبة وفترة دلمون المشهورة  بقايا بناء, على الأرجح لمعبد ديني, كذلك بقايا استيطان معماري سكني ومخلفات فخارية كثيرة إلى جانب لقى أثرية مميزة مثل أختام جميلة مزيّنة برسوم ذات مواضيع وأشكال مختلفة. من سوء الحظ أنه لم يعثر على أي نصوص كتابية تساعد على إعطاء معلومات مفصلة عن هذه الحقبة التاريخية المهمة أو على الأقل تُعرفنا على اسمها بتلك الحقبة والعصر - باستثناء نص صغير غير كامل منقوش على كسرة وعاء أو طبق حجري. معظم المصادر والأخبار والمعلومات عن هذه الفترة التاريخية مأخوذة كلها من الكتابات المسمارية التي وجدت عند جيرانها المباشرين أي عند السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين, والمعلومات المستقاة من الجزيرة هي المعلومات المقروءة والمحللة بواسطة اللقى والمكتشفات الأثرية. في الطرف الغربي من منطقتي سعد وسعيد وبعمق أمتار عدة عثر على بقايا أركان معمارية جدرانها مبنية من الطوب - اللبن المجفف تحت أشعة الشمس - وأساساتها من الحجر. هذه الأركان هي في أغلب الظن أجزاء من مبنى كبير, ونتيجة قراءة وفحص اللقى التي عثر عليها هنا يرجح أن هذه الأوابد والشواهد المعمارية عائدة وتابعة لمعبد ديني مهم. في ثنايا هذه الأوابد عثر على لقى أثرية كثيرة العدد ومختلفة النوعية منها أوان وقطع فخارية, ومنها بعض الدُمى والتماثيل الصغيرة بالإضافة إلى كسر كثيرة من نوع حجر السيتاتيت القاسي المائل للسواد. على بعض هذه الكسر نقوش وأخرى من دونها, إلى جانب هذه اللقى عثر أيضا على عدد كبير من الأختام الرائعة المنقوشة والمنحوتة برسوم وأشكال جميلة, معظم هذه القطع واللقى هي من الطابع الفني الثقافي الدلموني. كل هذه المكتشفات عائدة لفترة ما يسمى بعصر دلمون المبكر الموازي لعصري السلالات الأولى السومرية والإمبراطورية الأكادية في منطقة بلاد الرافدين, وفترة عصر دلمون المبكر هذه مؤرخة بالأرقام بحدود 2500 إلى2100 قبل الميلاد. والشيء اللافت للنظر في هذه اللقى هو الأختام الدائرية ذات المواضيع والرسوم والأشكال الأسطورية القيّمة جدا, فمن خلال دراسة وبحث هذه المواضيع والرسوم والأشكال بالاستطاعة أخذ فكرة وصورة - ولو تقريبية نوعا ما - عن ناس وقوم حضارة دلمون في تلك الحقبة الزمنية وذلك من النواحي: المادية والفنية والفكرية والثقافية إلى جانب الناحية الدينية. فقد عثر على 367 ختما, بينهما فقط 61 ختما من أنواع الأختام الأسطوانية المشهورة والعائدة حصراً لحضارات بلاد الرافدين وعدد قليل جدا من نوعية أختام حضارة وادي الهندوس. وكل الأختام المحلية, أي الدلمونية, تملك شكلا وهيكلا واحدا, جلّها - دون استثناء - ذات شكل دائري على هيئة قرص مدور ومزينة برسوم وأشكال جميلة وواضحة, رسوم هذه الأختام تمثل أشخاصا بشريين بمناظر مختلفة (جالسة, راجلة, في وضعية عراك, إلى جانب حيوانات متنوعة) ومخلوقات أسطورية خرافية نصفها إنسان ونصفها الآخر ثور - هذا المخلوق معروف كحارس لمداخل أبواب المعابد في حضارات ما بين النهرين - وحيوانات متنوعة (طيور, غزلان, مها, ثيران, عجول, ثعابين, عقارب, قرود بأعداد كبيرة, وقليل من الأسود) وزهور ونباتات وأقراص شمس وأخيرا رايات مزينة برأسها هلال. كل هذه الرموز هي رموز دينية عقائدية تعبّدية ذات معنى أسطوري ملحميّ وعلى الأغلب هي أجزاء من ملاحم أسطورية دينية كانت معروفة بشكل مفصل لأصحابها بذلك الزمان. خلفياتها قصص وحكايا ذات مواضيع متنوعة ولكن بغطاء وإطار ديني تعبدي ويغلب عليها مشاهد التعبد والتقرب. من هذه المواضيع: مشاهد تعبّد الشمس, مشاهد تعبد القمر بأطواره, مشاهد تعبد شعارات ورموز للآلهة, مشاهد التقرب للآلهة, مشاهد حماية الحيوانات الأليفة من الكاسرة وإطعامها, مشاهد العراك مع الحيوانات الكاسرة والمتوحشة, مناظر حيوانات معينة كرموز للخصوبة والاستمرار مثل العجول, الثعابين, العقارب ومناظر حيوانات كرموز للقوة (الثيران, الأسود) وإلى ما شابه ذلك. والأختام الشخصية كما هو معروف ومتعارف عليه كان لها دوران مهمان في حياة الناس القدامى, دور يرمز إلى الغنى والجاه والمركز الاجتماعي بالإضافة إلى الصفة الإدارية لمهر المعاملات والوثائق والكتابات الرسمية, هذا الرمز بمدلوله هذا مازال ساريا حتى يومنا هذا دون تغيير. ولكن الدور الأهم والأقدم للختم بشكل عام هو الرمز الديني, وذلك كحجاب يحتوي موضوعا دينيا عقائديا وظيفته حماية صاحبه من كل سوء وشر. وإبعاد حامله عما يؤذيه ويضرّه ويسيء له. أي أن الختم كانت له صفة التميمة والتعويذة, والتي هي بالمحصلة صفات دينية بحتة, مهمة الحجاب والتميمة والتعويذة لحاملها هي أولا حمايته من كل الأشياء الشريرة التي قد تؤذيه وتضره وثانيا كنتيجة بديهية للصفة الأولى جلب الخير والبركة والتوفيق وكل التمنيات الخيرية والإيجابية لصاحبها. وبما أن كل هذه الأختام المنقوشة بمناظر ذات مغزى ديني وجدت فيما يعتقد بأنه معبد ديني فهذا يفسر على أن هذه الأختام ما هي إلا أحجبة نذرية أهداها أصحابها لإلههم الشفيع. إلى جانب العدد الكبير والمهم للأختام هناك أيضا كسر أحجار السيتاتيت الكثيرة التي عثر عليها في حرم شواهد المعبد. على إحدى هذه الكُسر, والمرجح أنها كانت جزءا من طبق أو وعاء حجري نذري, آثار نقش لشخصين بشريين يرى منهما فقط اللباس والأرجل. ولكن الشيء الأهم في هذه الكسرة هو بقايا الكتابة المسمارية المحفورة بين الشخصين. الكتابة تقول: معبد الإله إينزاك. كما هو ظاهر النص ناقص, ولكن على الأرجح ومع المقارنة بنصوص مشابهة من بلاد الرافدين ينتقص فقط اسم المنذر أو الهادي وصفته. هذا الإله إينزاك غير معروف في الأدبيات الرافدية, لربما يكون إلها دلمونيا? وعادة فإن  النذر في الأديان القديمة يكون لإله الشفاعة عند الناس الذي يقيهم ويحميهم من الشرور ويجلب لهم الخير والبركة, وربما يكون الإله إينزاك هذا هو إله الشفاعة الأولى عند قوم وأهل حضارة دلمون! كما سبق أن تعرفنا على ثروات فيلكا الأثرية الجميلة والرائعة العائدة لفترة حضارة دلمون المبكرة ينقصنا بعد لقى وشواهد العصور المتأخرة من هذه الحضارة القيّمة والمهمة والتي على الأرجح لا تزال تنتظر معاول المنقبين لكي تظهر لنا وتكمل معرفتنا عن ذلك الزمن الماضي. فيلكا, هذه الجزيرة الصغيرة الواقعة قبالة شاطئ مدينة الكويت, ساهمت - كما رأينا - بدورها الملحوظ والناشط والمهم في نشوء وتطور الحضارات (حضارات بلاد الرافدين وحضارات بلاد وادي الهندوس) وبكل جدارة واعتزاز تستطيع فيلكا, هذه الجزيرة التي لا تتعدى بضعة كيلومترات من المساحة, أن تسمي نفسها (جزيرة القوافل والتاريخ).

 مجلة العربي الكويتية آزاد حموتو .

 



الأحد، 13 أكتوبر 2024

هي العجلة أفة قاتلة ولعلها من أشد أسباب بلائنا ومن حكايا السلف لنا مثل

 

صَبِيحَةٌ مُبارَكَة

إِخْوَتِي أَخَوَاتِي

هي العجلة أفة قاتلة ولعلها من أشد أسباب بلائنا

ومن حكايا السلف لنا مثل

فإرادة التغيير لواقع معاش وفي لمح البصر دون تهيئة الأسباب والظروف لتغمض عينك ثم تفتحها لتجد نفسك ومن حول في عهد الصحابة رضوان الله عليهم سيدنا موسى استعجل قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ ﴿٨٤﴾ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴿٨٥﴾ سورة طه فالاستعجال قد يؤدي إلى عكس المرجو من . حدث أبا الحسن علىّ بن عبيد الله الزعفراني يحكى أن رجلا اجتاز بباب امرأة نصرانية، فرآها فهويها من وقته، وزاد الأمر به حتّى غلب على عقله، فحمل إلى البيمارستان. وكان له صديق يتردّد إليه ويترسّل بينه وبينها. ثم زاد الأمر به، فقالت أمّه لصديقه: إني أجئ إليه فلا يكلمني، فقال: تعالى معي، فأتت معه. فقال له: إن صاحبتك بعثت إليك رسالة، قال: كيف؟ قلت: هذه أمك تؤدّى رسالتها. فجعلت أمه تحدّثه عنها بشيء من الكذب. ثم زاد الأمر عليه ونزل به الموت، فقال لصديقه: قد جاء الأجل وحان الوقت وما لقيت صاحبتي في الدّنيا، وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة. فقال له: كيف تصنع؟ قال: أرجع عن دين محمد، وأقول عيسى ومريم والصليب الأعظم. فقال ذلك ومات. فمضى صديقه إلى تلك المرأة فوجدها عليلة فجعل يحدّثها، وأخبرها بموت صاحبها، فقالت: أنا ما لقيته في الدّنيا وأنا أريد أن ألقاه في الآخرة. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنا بريئة من دين النصرانية. فقام أبوها فقال للرجل: خذوها الآن فإنها منكم، فقام الرجل ليخرج، فقال له: قف ساعة؛ فوقف، فما لبث أن ماتت.

وقال أيضاً : وبلغني عن رجل ببغداد (يقال له صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يعرف بالصلاح) أنه صعد يوما إلى المنارة ليؤذن فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد. فافتتن بها، فجاء فطرق الباب فقالت له: من أنت؟ قال: أنا صالح المؤذن. ففتحت له الباب فدخل وضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات، فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتينى على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا، إلا أن تترك دينك، فقال كلمة الكفر وبرئ من الإسلام. ثم تقدّم إليها فقالت: إنما قلت هذا لتقضى غرضك ثم تعود إلى دينك. فكل من لحم الخنزير، فأكل منه، قالت: فاشرب الخمر، فشرب. فلما دبّ الشراب فيه دنا منها فدخلت بيتا وأغلقت بينها وبينه الباب، وقالت له: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبى زوجني منك. فصعد فسقط فمات. فخرجت إليه ولفته في مسح. وجاء أبوها فقصت عليه القصة فأخرجه فى الليل ورماه في السكة. وظهر حديثه، فرمى على مزبلة.

يا رب عليك بمن تسبب في بلائنا

يا رب فرج عن الشام وأهل الشام

نهاية الأرب في فنون الأدب (2/ 173)